د.حسن الأمراني
خلّفت الحرب العالمية الثانية (وهي في الحقيقة حرب غربية ـ غربية، لم يكن فيها العرب والمسلمون غير حطب لها) كثيرا من الخيبات في نفس الإنسان الغربي، فظهرت كثير من المذاهب الأدبية والفلسفية التي تعبر عن تلك الخيبات، ومن أهمها أدب العبث، أو اللامعقول، وكان من أشهر المسرحيات التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، مسرحية صمويل بيكيت: (بانتظار غودو)، وقد أثرت هذا المسرحية كثيرا في الأدب العربي، شعره ونثره. ولكن هناك عملا آخر لم يكن أقل تأثيرا وتعبيرا عن فلسفة الخيبة والعبث، وهو رواية الإنجليزي جون أوزبورن: (انظر خلفك في غضب)، وقد كان هذا العنوان صرخة أطلقها صاحبها احتجاجا على الحماقات البشرية التي ولدت الحرب، والحماقات التي تولدت عما بعد الحرب. وكانت هذه الصرخة شعارا ملائما للذين نادوا بالقطيعة المعرفية مع الماضي.
وكما يحدث كثيرا في العالم العربي والإسلامي، التقط المقلدون، الذين إذا دخل الغرب جحر ضب دخلوه، هذا الشعار، واتخذوه كتابا منزلا يتعبدون به، ودعوا إلى قطيعة حضارية مع الماضي العربي الإسلامي كله. وكما يحدث كثيرا أيضا، وسع المقلدون العرب من هذا الشعار، فصار دعوة إلى القطيعة مع (المقدس) الذي اعتبروه أس البلايا ومصدر الشرور.
ولم يتغير هذا الشعار بعدما تبين إفلاس كل الأنظمة السياسية والمعرفية التي عاشوا في معطفها، وكان ما تعانيه الأمة من أحداث جسام مناسبة لمراجعة الذات وفحص الأطروحات التي بان عوارها، ولكن إخوانهم يمدونهم في الغي.
فهل علينا أن نستمر في التشبث بهذه الصرخة: (انظر خلفك في غضب)؟
إننا عندما ننظر إلى واقعنا الحديث والمعاصر نجد أن العالم العربي والإسلامي سقط في وهدة ولم يستطع أن ينهض منها، مع كثرة الدعوات إلى (النهضة).. بل إن الواقع يشهد أن حاضرنا الممتد لما يزيد على قرن من الزمان لم يستطع التخلص من التخلف، بل هو ــ حتى مع ما يعرف اليوم بالربيع العربي ــ يزداد تشرذما وتخلفا، ويبتلى بآفات شديدة الفتك، ومنها (الكراهية) التي صارت تهيمن على المجتمع، وأي كراهية أشد من أن يقتل الأخ أخاه، فضلا عن أن يسفه رأيه إذا خالفه، فلم يعد هنالك مجال للحوار ولا للخلاف ولا للمجادلة بالتي هي أحسن، التي أمرنا أن نصطنعها في تعاملنا مع أهل الكتاب، فلم نستطع أن نتعامل بها حتى مع بعضنا البعض..
إننا إذن عندما نوازن بين واقعنا الحاضر وماضينا الغابر نجد أن الماضي يمثل الإشراق والأمل والوحدة والمحبة والحضارة، بينما يمثل الحاضر الظلام والتشرذم والتمزق والتخلف والكراهية. فهل يصح عقلا أو نقلا أن نردد مع المرددين وننعق كما ينعقون: (انظر خلفك في غضب)؟ إن علينا أن نقول: (انظر خلفك في أمل)، ذلك بأن هذا الماضي، ولاسيما في نصوصه الثابتة، وفي ممارساته العادلة، هو حبل النجاة المتين.
إن إعادة النظر في الماضي، بتبصر، كفيل بأن يمنحنا القدرة على اكتشاف ذواتنا من جديد، وأن نتعرف العناصر القادرة على مساعدتنا في إعادة البناء الحضاري. إن شعار (الثقافة البانية) قد انطلق من فكرة أساسية، وهي أنه لا بد من التمييز بين الانفعال والفعل، فبذلك وحده نستطيع أن ننتقل من الانفعال إلى الفعل، ذلك بأن حضارتنا لا تعتبر العلم إذا لم يقترن بالعمل، ولا تعتد بالتراكم المعرفي ما لم يكن طريقا إلى العمل الصالح، ومن هنا ساعدت الممارسة، داخل جمعية النبراس، على استكمال الشطر الثاني من شعارها، وهو: (المجتمع المسؤول)، فاكتمل الشعار قائما: (نحو ثقافة بانية ومجتمع مسؤول). إن المشروع القائم وراء هذا الشعار ليس مشروعا فرديا، ولا هو مشروع مؤسسة محدودة في واقعها وأفقها وتطلعاتها ، ولكنه يسعى إلى أن يكون (مشروع الأمة). ومن هنا فإن الجمعية منفتحة على كل الطاقات المخلصة، التي تجعل من همها خدمة الأمة، والسعي إلى الخروج بها من مرحلة التشرذم والتخلف، إلى الآفاق الرحبة للوحدة والنهضة الشاملة، تلك النهضة التي تمكّن من استرجاع الدور الحضاري العظيم الذي من أجله أخرجت للناس.
إن هذه النظرة الفسيحة ، التي تجعل المنظور هو الأمة، على امتداد رقعتها المكانية والزمانية، لا تنسينا الدور الحضاري الكبير الذي قام به هذا الشطر من العالم الإسلامي، ألا وهو المغرب، في سبيل توطيد قيم الحضارة في فترات الضعف الذي دب إلى أصقاع أخرى من هذا العالم الإسلامي، ووقف زمنا طويلا في وجه الزحف الاستعماري الغربي، منذ الحروب الصليبية ، من جهة، وفي مواصلة بناء صرح العلوم ، ونقل المد الحضاري إلى جنوب الصحراء من جهة أخرى ، في وقت كان قد انحسر فيه هذا المد، بالمشرق.
وليس من باب التغني بالأمجاد، ولا من قبيل البكاء على الأطلال الدارسة، والرياض اليابسة، أن نستحضر عددا من الأسماء الشامخة في هذا المجال، من أمثال أبي إسحق الشاطبي، وأبي العباس السبتي، والقاضي عياض، وابن رشد، وابن خلدون، وابن الخطيب، والشريف الإدريسي، والحسن الوزاني، والزهراوي، وابن بطوطة، وغيرهم من علماء المغرب، مما لا يحصيهم العد.
إن المغرب، في هذه اللحظة الحاسمة من تاريخ الأمة، مدعو إلى أن يستعيد دوره الحضاري الباني، وأن يحقق ما تصبو إليه الأمة كلها من الإقلاع الحضاري من جديد ، وأن يكون الدرع الواقية ضد أعاصير الاقتلاع الحضاري التي تحيط بالأمة من كل جانب.
ومما لا شك فيه أن هذا الدور الحضاري المتميز لا يمكن أن تنهض به جهة واحدة، بل لا بد من أن تتوافر وتتوفر الجهود المشتركة، رسميا وشعبيا. وإن الجمعيات، الثقافية والعلمية والفنية، إذا ترسخ لديها هذا الاعتقاد، قادرة على الإسهام في تحقيق هذا المشروع العظيم، وذلك ببث الوعي به أولا على نطاق شعبي واسع، ثم بالسهر على تنفيذ ما يمكن تنفيذه منه من جهة أخرى.
وإن جمعية النبراس، وهي تحيي الذكرى الثانية والثلاثين لتأسيسها، تستحضر المراحل التي قطعتها، جدا واجتهادا، واتساعا وامتدادا، من أجل بلورة هذا الشعار: (نحو ثقافة بانية ومجتمع مسؤول)، والعمل على التمكين له واقعيا. وإن التأمل في اللجان الفرعية للجمعية وعملها الدؤوب من أجل ترسيخ المبادئ التي تقوم عليها الجمعية، ذلك العمل الذي يضطلع به كثير من العاملين الذين لا يطلع على جهودهم المتواصلة ليل نهار إلا الله تعالى ، يكشف عن أن الجمعية استطاعت بفضل الله تعالى تحقيق الشمولية التي هي أحد مقومات البناء الحضاري ، تصورا وتطبيقا. إلا أن ذلك لا يدعو إلى الدعة، لأن ما ينتظرها هو أعظم من ذلك بكثير.ولا بأس أن يكون المرء نهما في هذا المجال، إذ المومن لا يشبع من خير.
وإننا بحاجة، في كل محطة من محطات العمل، إلى نقد ذاتي، وتقويم مستمر، من أجل متابعة المسيرة على بصيرة، (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة)، حتى نستطيع القيام بالمسؤولية المنوطة بنا في هذه الشأن، وهي التوعية بضرورة إسهام كل فرد فرد من هذا المجتمع، في صرح البناء الحضاري الشامخ،
كل من منطلق موقعه، وبحسب مسؤوليته التي حددها الحديث الشريف: (كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته)، وانطلاقا من التوجيه النبوي العظيم: (لا تحقرن من المعروف شيئا).
وكتبه العبد الفقير إلى الله تعالى: الحسن بن عمر الأمراني، رئيس جمعية النبراس،
في الشارقة، بتاريخ:13ربيع الأول 1435، الموافق لـــ 15يناير2014
قسم : الإدارة - 14:40 20-1-2014 - المصدر : الدكتور حسن الأمراني |