معاهدات النبي محمد مع مسيحيي العالم
صدر حديثا كتاب قيم باللغة الانجليزية للباحث الأمريكي جون أندرو مورو تحت عنوان: 'معاهدات النبي محمد مع مسيحيي العالم' The Covenants of the Prophet Muhammad with the Christians of the World. ويقع الكتاب في 466 صفحة من القطع المتوسط، صادر عن دار النشر Angelico Press شهر أكتوبر 2013؛ وهو موزع إلى أربعة أجزاء أهمها الجزء الأول الذي يركز بالخصوص على دراسة تاريخ ومضامين وأهداف معاهدات الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويمكن اعتبار هذا الكتاب بحق دراسة جادة ومتميزة وعميقة لأهم المعاهدات التي أبرمها رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام مع الجماعات أو الطوائف المسيحية المختلفة، مثل رهبان جبل سيناء ومسيحيي نجران ومسيحيي بلاد فارس والمسيحيين الآشوريين والمسيحيين الأرمن بالقدس. وقد تناول الكاتب بالشرح والتحليل كلاّ من هذه المعاهدات في فصل مستقل، مشيرا إلى تاريخها والظروف التي ساهمت في عقدها، مع التأكيد على إبراز أهميتها من النواحي الدينية والاجتماعية والسياسية والإستراتيجية والحضارية.
ومنذ الصفحات الأولى يدرك القارئ أن الكاتب معجب أيما إعجاب بإنجازات الرسول (ص)، ولذلك فهو يحاول من خلال مؤَلَّفه أن يشيد بحكمة هذا الرجل العظيم وبحنكته وسياسته القويمة في تسيير شؤون الدولة الإسلامية الوليدة. كما أنه يثمّن الخطوات الرشيدة والحلول الناجعة التي تَمكن من خلالها من معالجة العديد من القضايا المعقدة التي كانت تخص علاقة المسلمين بجيرانهم من ذوي الديانات الأخرى.
ففي مستهل فصله الأول الافتتاحي المعنون: 'النبي محمد وعلاقته بأهل الكتاب' يؤكد الدكتور جون مورو بأن معاهدات الرسول (ص) وثائق تاريخية بالغة الأهمية تسلط الأضواء على فترة جد حساسة من التاريخ القديم للإسلام، كما أن مضامينها ذات قيمة حضارية عالية جدا لأنها تبرز طبيعة العلاقة السلمية التي كانت تجمع المسلمين بأهل الكتاب (أي اليهود والنصارى). وبما أن الصراع الحالي والقائم منذ قرون بين الطرفين هو، كما يرى الكاتب، صراع مصطنع دبرته وأشعلته القوى الامبريالية لخدمة مصالحها، فإن بإمكان هذه المعاهدات أن تصلح كمصدر إلهام لإبطال ذلك الصراع وإحياء ذلك التناغم والتسامح الموحِّد للديانات الإبراهيمية الثلاث: اليهودية والمسيحية والإسلام. ف'دستور المدينة' (والمعروف أيضا باسم 'صحيفة المدينة')، والذي أبدعه الرسول صلى الله عليه وسلم في العام الأول للهجرة، يعتبر نموذجا راقيا ومثاليا للتعايش السلمي بين أصحاب الديانات المختلفة سواء داخل دولة واحدة أو في العالم ككل.
إذ بفضل هذا الدستور، الذي هو أول دستور مدني في التاريخ، استطاع الرسول (ص) أن ينظم العلاقة بين جميع طوائف المدينة، خاصة جماعات المسلمين واليهود؛ كما استطاع أن يكفل حقوق جميع سكان المدينة بما فيهم الوثنيين. وإذا كان الأمر كذلك، يتساءل الكاتب، فلماذا يتم إهمال و"تجاهل هذه الوثيقة لصالح عروض أقل ديمقراطية من قِبل نموذجي 'الديمقراطية اليونانية' و'الجمهورية الرومانية'؟" وفي معرض دراسته المستفيضة وتحليله الدقيق لسِتّ معاهدات عقدها الرسول (ص) مع مسيحيي العالم، يؤكد الكاتب بأن هذه العهود والمواثيق، وعلى غرار 'دستور المدينة'، مفعمة بروح التسامح والاحترام تجاه مختلف الطوائف المسيحية. فهي تضمن لهم الحماية تحت قيادته الرشيدة والتمتع بجميع حقوقهم الإنسانية في ربوع الدولة—أو الأمة—الإسلامية. وهكذا نقرأ، مثلا، في معاهدته مع 'رهبان جبل سيناء' ما يلي:
"وَلاَ يُغيِّرُ أُسقُفٌ مِنْ أُسقُفِيَتِهِ وَلاَ رَاهِبٌ مِنْ رَهْبانِيتِهِ وَلاَ جَليسٌ مِنْ صَومَعتِهِ وَلاَ سائِحٌ مِنْ سِياحَتِهِ. وَلاَ يُهَدَّمُ بَيْتٌ مِنْ بُيُوتِ كَنائِسهِمْ وَبِيَعِهِمْ وَلاَ يَدْخُلُ شَيْءٌ مِنْ مَالِ كَنائِسهِمْ فِي بِناءِ مَسْجِدٍ وَلاَ فِي مَنَازِلِ الْمُسْلِمِينَ. ومَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ نَكَثَ عَهْدَ اللهِ وَخَالَفَ رَسُولَ اللهِ
وَلاَ يُحمَلُ عَلَى الرُّهْبَانِ وَالأَسَاقِفَةِ وَلاَ مَنْ يَتَعبَّدُ جِزْيَةٌ وَلاَ غَرامَةٌ، وَأَنَا أَحْفَظُ ذِمَّتَهُمْ أيْنَمَا كَانُوا مِنْ بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ، فِي المَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَالشَّمَالِ وَالجَنُوبِ، وَهُمْ فِي ذِمَّتِي وَمِيثَاقِي وَأَمَانِي مِنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ."
لكن في مقابل تلك الحقوق والحريات، فقد كانت هناك أيضا شروط وواجبات كان من الضروري أن يحترمها ويلتزم بها أولئك الرعايا غير المسلمين. فمن غير المعقول مثلا أن يتسامح المسلمون مع أي أحد حاول التجسس أو التآمر ضدهم لصالح الأعداء. فكل من اختار أن يعيش بسلام مع المسلمين فقد كان المسلمون يبادلونه بالسلام، أما من حاول الغدر والخيانة أو الاعتداء فكان مصيره العقاب أو الحرب. وكمثال على هذا نورد المقطع التالي من المعاهدة مع 'مسيحيي العالم':
"هَذَهِ الشُرُوطُ الَّتي شَرَطَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ لِأَهْلِ الْمِلَّةِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَ أشرَطَ عَلَيْهِمْ فِي دِينهمْ أُمُورًا فِي ذِمَّتِهِمْ، عَلَيْهِم التَّمَسُّكُ بِهَا وَ الْوَفَاءُ بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِمْ، وَ مِنْهَا أَنْ لاَ يَكُونَ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَيْناً لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي سِرٍّ وَ لَا عَلَانِيَةٍ، وَ لَا بِوَفَاءِ فِي مَنَازِلِهِمْ وَ لَا يَأْوُوا عَدُوّاً لِمُسْلِمٍ، وَ لَا يَنْزِلُ أَوْطَانَهُمْ وَ لاَ فِي مَسَاكِنِ عِبَادَتِهِمْ ... فَمَنْ نَكَثَ مِنْهُمْ شَيْئاً مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَ تَعَدَّاهَا إلَى غَيْرِهِ، فَبَرِئَ مِنْ ذِمَّةِ اللَّهِ وَ ذِمَّةِ رَسُولِ اللّه.... "
وكما يوضح الدكتور جون مورو، فإن خطاب الرسول (ص) في جل معاهداته لم يكن موجها إلى المسيحيين فقط، بل كان المسلمون أيضا معنيين بتلك العهود والمواثيق. وغالبا ما كان الرسول (ص) يبدأ بِحثّ المسلمين على إحترام بنود تلك المواثيق وتجنب إلحاق أي أذى بنظرائهم النصارى وإلا استحقوا لعنة الله وسخطه. وإنطلاقا من مثل هذا الموقف النبوي الرزين والمتوازن، يدعو الكاتب المسلمين والمسيحيين على السواء إلى استلهام روح تلك المعاهدات والإستفادة منها كنماذج تحتذى لصياغة علاقات معقولة يطبعها السلم والتسامح بعيدا عن الإستهداف المتبادل وإراقة الدماء على نحو ما يفعله بعض من يسميهم بالتكفيريين وكذلك نظرائهم الإمبرياليين.
وبما أن هناك باحثون يشككون في صحة وجود بعض معاهدات الرسول صلى الله عليه وسلم وآخرون يدّعون أنها تعرضت للنحل والتزييف، فقد بذل الكاتب جهودا كبيرة لإزالة مثل هذا اللبس والتشويش المتعمّد. فقد زار العديد من الأقطار وقام بأبحاث واستقصاءات كثيرة في المكتبات والمتاحف للحصول على معلومات مؤكدة ووثائق أو مخطوطات أصلية، أخضعها بعد ذلك لدراسة أكاديمية دقيقة وممنهجة. كما قام بترجمة تلك المعاهدات المدروسة من أصلها العربي إلى اللغة الإنجليزية وعزز أهمية كتابه بتضمين العشرات من الوثائق والمخطوطات النادرة التي تؤكد مصداقية معاهدات الرسول (ص). وفضلا عن ذلك، يمكن لهذه الوثائق—وبالأخص نصوص المعاهدات في نسخها العربية والإنجليزية—أن تصلح كمصادر ثمينة جدا لبحوث أخرى حول معاملة الرسول (ص) لغير المسلمين؛ كما أن بإمكانها، لو أُحسن فهمها وتوظيفها، أن تفيد في تحسين العلاقات المتشنجة الحالية بين المسلمين والمسيحيين وأن تقوّي روح التعايش السلمي والاحترام المتبادل بينهم.
وتجدر الإشارة في هذا المقام إلى أن كل هذه الأفكار النيرة والنزيهة التي تضمنها كتاب الدكتور جون مورو حول رسولنا الكريم تأتي في أعقاب الحملات المغرضة التي استهدفت هذا الرجل العظيم في السنوات الأخيرة الماضية. إذ تم، كما هو معروف، نشر وترويج بعض الرسومات الكاريكاتورية المشينة وأفلام الفيديو الحاقدة تسيء بشكل سافر إلى الرسول محمد عليه السلام. وقد جاء ذلك ضمن موجة عداء شاملة ضد الإسلام استفحلت عقب هجمات 11 شتنبر 2001 وأنتجت ما يعرف حاليا بالإسلاموفوبيا وخطابات "الحرب على الإرهاب". ومن الواضح جدا أن هذه الحرب ما هي في الحقيقة إلا وجه من وجوه حرب حضارية مبيتة ومقيتة يشنها الغرب على الإسلام والمسلمين لخدمة مآربه الإستعمارية.
ولذا، يمكن القول بأن كتاب الدكتور جون مورو جاء في وقت مناسب جدا ليُدين أيديولوجيات ومخططات الغرب المغرضة ويصحح الكثير من الأفكار المضللة والصور القاتمة الهادفة إلى إلصاق تهمة الهمجية والإرهاب بالإسلام عموما وبنبي الرحمة وخير البشرية (ص) بشكل خاص. فمقابل هذه الصورة الكاذبة والحاقدة، استطاع الكاتب من خلال مؤَلَّفه الهام أن يقدم صورة معاكسة ناصعة تدحض تلك الإفتراءات وتسلط الأضواء الكاشفة على حكمة وعظمة هذا الرمز الخالد الذي أرسله الله تعالى رحمة للعالمين.
ونشير في الأخير إلى أن الكاتب جون مورو باحث جاد من أصل كندي، وهو من مواليد 1971 بمونتريال. حصل على شهادة الدكتوراة من جامعة تورنتو، ودرّس في عدة جامعات، خاصة منها الجامعات الأمريكية. أحب الإسلام واعتنقه منذ الصغر (وقد اتخذ إسم 'إلياس' كلقب إسلامي). له أبحاث كثيرة في ميادين متنوعة وأصدر عدة كتب نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر مؤلفاته التالية: 'موسوعة طب الأعشاب الإسلامية' Encyclopedia of Islamic Herbal Medecine (2011) و'بصائر إسلامية: كتابات ومراجعات' Islamic Insights: Writings and Reviews (2012) و'صور وأفكار إسلامية: مقالات في الرمزية المقدسة'Islamic Images and Ideas: Essays on Sacred Symbolism (2013).