المجال الثقافي و بناء ثقافة الجوار
مصطفى شعايب
moustamadani@yahoo.fr
في الوقت الذي نجح فيه الغرب في إرساء ثقافة للحوار والتجاور والتكامل بين شعوبه, ودلل الحدود السيادية والجغرافية التي تخترق جسده وذاكرته النفسية والتاريخية,متجاوزا بدلك عصر الصراعات القاتلة والحروب المدمرة و الانيات المغلقة...نجح كذلك – بكل أسف - في زرع مشروع نقيض في الضفة الشرقية للحضارة,عنوانه الحدود المتفجرة والتقسيم الملغوم و الجزائر الملتهبة.كما نجح في زرع أسباب ومقدمات هدا الوضع عبر مفاهيم الدولة الوطنية والكيانات القطرية والتبعية الحمائية والأنظمة المتسلطة.
غير أن هذه المسؤولية التاريخية للغرب في وضعنا العربي و العالم ثالثي المتفجر لا تنفي قابليتنا لذلك ووجود بذور الأزمة فينا ومبررات المشكل حولنا.
لقد وجد الغرب لدافعيته التوسعية المخلة بثقافة الجوار جاذبية من جانبنا ,مفتقرة لمقومات حسن الجوار ومجاله الثقافي الباني.وكان للتمرد على مفهوم الأمة واستبدال علاقة التخوم بعلاقة الحدود والسقوط في فخ التمرد العربي/ الانجليزي – اللورنسي- ضد الحضور العثماني و استسهال الحديث عن امتداد مسيحي للغرب في الفضاء العربي واستبدال الفكر الوطني السائد آنذاك ومشاريعه النهضوية ضد الفساد والاستبداد بفكر تحديثي ملتبس بالتبعية للغرب وغيرها,كان لكل هذا الدور الأساس في تفكيك مجالنا الثقافي السوي والمنسجم ,ووضع الحدود الفكرية قبل تفكيك وتمزيق الوطن العربي إلى دويلات وإمارات وقبل وضع الحدود الترابية والحديدية واقتسام السيادة.
لقد أصبح العالم عامة وعالمنا العربي خاصة فقيرا من حيث ثقافة الجوار ومقتضياتها رغم أن العلاقات الدولية المعاصرة بعد الحرب العالمية الثانية بنيت على خطابات وشعارات السلام لكن الواقع المعيش منذئذ هو واقع صراعات وحروب ثقافية وحضارية وبلقنة وتفكيك بل وزرع لكيانات غريبة مثل الكيان الصهيوني الذي أربك المجال الثقافي العربي وفجر امتداداته الموحدة والطبيعية اتجاه القدس والأقصى وفجر حدودا وجدارات فيه وبه ومن حوله .
كما شهدنا زرع حدود داخل كل كيان بدعاوى مختلفة , أحيانا بدعاوى عرقية طائفية وأخرى بدعاوى لغوية وانفصالية.
إضافة إلى الحروب العسكرية الدامية التي فرضتها مشاريع الشرق الأوسط الجديد والفوضى الخلاقة بدماء و أموال عربية عابرة للحدود ضد كل خطابات السيادة وقدسية المزعومة, على حدود مزعومة وجزر تائهة.
إن المشكلة إذن ليست مجرد حدود جغرافية ولكن أيضا مشكلة حدود ثقافية ,كما أن الأمر لا يتعلق بأزمة جوار ثقافي خارجي – مابين ثقافات- بل خاصة معضلة جوار معرفي داخلي, يتصارع فيه المحلي مع الوافد والأصيل مع الدخيل والقديم مع الحديث والمقدس مع الدنيوي في تنافر وتعارض بئيسين بؤس عملية المثاقفة ذاتها والتلاحق الإجباري الذي خضع له الشرق في تواصله الصادم مع الغرب.
إن المجال الثقافي الملتبس الذي أنتج هذه الحدود المتفجرة في حاجة إلى ثقافة بانية تفكك حواجزه وتنظم علاقاته وتذيب جدرانه العازلة الفاصلة, من خلال معالجة القضايا التالية/
- القابلية للتقسيم/
التمرد على الذات والانقسام عن النفس فكر عربي بدوي وشكل من أشكال السيبة وعصور التخلف,وقد ساهمت القابلية الذاتية للالتباس لبعض مكونات المجال الحضاري الإسلامي- مذهبية,عرقية,لغوية,دينية مسحية يهودية, بتدخل وتوجيه من الأخر المجاور في تعميق هذه القابلية وإحداث دلك الانقسام على المستوى الجغرافي والفكري بل والشعوري أيضا. مما قوض ركائز البناء وهدد تماسكه وحوله إلى فضاء مستباح وحقل تجارب اديولوجية و إمارات ممزقة,لم تلم شملها لا جامعة عربية ولا مؤتمر إسلامي ولا غيرها من التجمعات.
- الدافعية للبلقنة/
علاقة الغرب بالشرق كانت دائما عاصفة في إطار التواصل الحضاري البريء الذي وان اتخذ أحيانا وجهة إمبراطورية توسعية ,فقد كان في اغلب مراحله ,حتى العسكرية منها, اتجاها حضاريا , راكم التجربة البشرية و اطر وجهتها العمرانية المشتركة.
لكن الدورة الثقافية الغربية الجديدة مع القرن السادس عشر, وما تلاها من التوسعات الكشوفية وحركة الاسترقاق و المد الاستعماري بعدها والحركة الصهيونية ونمط النظام الدولي المعاصر,أنتجت علاقات استعلائية وضعت الحدود ومارست خطاب الإقصاء و وصمت باقي العالم بنعوت التخلف والبدائية والإرهاب.بل وسعت في مخططاتها الاستخباراتية ومشاريعها الاستشراقية إلى بلقنة العالم العربي الإسلامي وتمزيقه و استدعاء وتفجير تناقضاته,بدعاوى مختلفة وتحت مسميات محاربة الإرهاب والحداثة والعولمة والمنتظم الدولي والتشريعات الدولية. لقد أسرف الغرب في كيده للحضارات الأخرى وإعاقة نضجها ونموها وانطلاقتها,إلى درجة إشعال الحروب ودعم الانقلابات واختراق المفاهيم وتفكيك ما تم بناؤه في قرون. محولا النخبة المحلية المتشبعة بفكره التحرري الديموقراطي الحقوقي إلى طابور خامس وعامل قطيعة عوض أن تكون نخبة تواصل وسبب توتر واستفزاز بدل أن تعمل على الاستقرار.
إن التمكين لثقافة بانية عالمية من شانه تجاوز الانيات الكبرى ودعاوى الكراهية وخطابات – الأخر هو الجحيم- وخطابات الإقصاء والصدامية,والدخول ,في المقابل ,في شراكة حضارية يساهم فيها كل تجربة ثقافية بعطائها و انجازها.
وحتى نتجاوز عنف الجوار ونسعد بمساحته التواصلية وحرارة امتداداته العاطفية و الثقافية , لابد من الاستجابة للوعي والرشد العالميين في لحظات ثقافية فارقة .
الجوار المجالي
عرفت مجتمعاتنا العربية والإسلامية الحدود مع صدمة الحداثة الاستعمارية في القرن19ومشاريعها الاستيطانية, فمثلا لم يستشعر المغرب عنف الحدود مع الجزائر إلا باحتلال فرنسا لهذا الامتداد الجغرافي والثقافي المجاور له.الشيء الذي لم يحدث قط مع الحضور العثماني,نظرا للتشارك الثقافي والحس بالانتماء لأمة واحدة ومصير مشترك.
وفي غياب مشاريع ثقافية بانية وجادة على تخوم الحدود والمجالات الجوارية يصبح المجال الثقافي برحابته ومرونته وحضاريته رهين المجال الحدودي بعنفه وبكل ثقله الصدامي والسيادي,خلافا للواقع والتاريخ و الديموغرفيا والجغرافيا ووظيفة الثقافة ذاتها.
الجوار المجتمعي
إذا كانت الثقافة في وظيفتها ومحصلتها سلوك المجتمع , فهي قبل ذلك لحمته وسر تماسكه وانسجامه وتوازنه وتكامل مكوناته.وقد أدت عصور البداوة والتخلف من جهة, ومشاريع الاستعمار وخططه الهدامة من جهة أخرى, إلى تفكيك المشترك الثقافي وتبديد الوعي الجمعي إضعاف الشعور بالانتماء و زعزعة العقيدة المشتركة.مما أدى تفجر الجوار المجتمعي وتفكك علاقاته وروابطه بدعاوي, عدة ,عرقية, دينية ,مذهبية ,فكرية , فئوية ,لغوية ,وغيرها.حتى نسينا أن التحضر هو تعلم العيش المشترك, وان الدخيل الوافد مشروط بانسجامه مع الأصيل المؤسس. وان لا تجديد للميلاد, وان التجديد يكون في الميلاد وبأصوله.وقد نبه الدكتور الجابري محمد إلى ضرورة تأجيل هذه الصراعات الاديولوجية والعمل على بناء كتلة تاريخية جامعة.
وان التحديث يكون استجابة لحاجيات الذات ونداءات العصر من داخل النسق ,لا من خارجه.أو من داخل نسق مجاور ,هو الغرب, واوهم الناس انه, هو العصر.الشيء الذي أنتج نخبا مغتربة ومشاريع معرفية وإبداعية وسياسية هجينة,استعارت عناوين الحداثة و العصرنة والعلمانية وغيرها.وفي المقابل حافظت أنماط البداوة والتخلف على حدودها بل وجوارها الأمن مع الأنماط الحداثية , مما أدى إلى تمرد المكونات وتفجر الأطراف في غياب مشاريع جامعة رغم مشاريع دولنة الحياة المجتمعية وعقلنتها على النموذج الغربي.
الجوار الحضاري
إذن ليس المطلوب في التجربة الحضارية الإنسانية أن تنسخ كل تجربة التجربة التي قبلها, وليس في البناء من شيء, أن تلعن كل امة الأمة التي قبلها . بل إن الأمر يتعلق بتعارف حضاري ومنهج للاستئناف الحضاري, يعتمد ثنائية الحفاظ والتجاوز.
إن حدود الثقافات لا تعرف خطوط التماس والانفجارات ,بل إن الثقافات لا تعرف مفهوم الحدود أصلا.كما لا تقبل عنف التهجين والإلغاء والتنميط بدءا.
إن إرادات الريادة الحضارية لا تصنع حروبا ثقافية بل تبني جوارات ثقافية وتجارب حضارية تسلم كل واحدة منها المشعل للأخرى كلما ضعفت ووهنت,أو تستضيفها في تجربة مشتركة متعددة الأقطاب.
أما محاولة رد إحدى الثقافتين إلى سياق الثقافة الأخرى التاريخي ,فهي إرادة يجب التخلي عنها كما نبه الدكتور خالد حجي في إحدى مقالاته. لأنها كما يضيف إضاعة للجهد وشغلا للعقل عن استشراف سياقات جديدة.
لا تكمن أزمة المجال الثقافي العربي الإسلامي في افتقاره لثقافة للبناء,و لا تكمن أزمة الجوار المعرفي للمشاريع الثقافية القائمة – إسلامية, حداثية... في إرادة الفصل المتعسف بينهما, بل كذلك في جرأة الجمع المتعسف بينهما أيضا. أي ذلك الخلط الغير المنهجي و الغير العلمي بشكل استتبا عي وتهجيني.كما أصبح المجتمع رهين خطابات متوترة ومتفجرة,بعيدة عن رشد المثقفين ,تأمر في صنعها جنرالات الإعلام وتجار الدين ومثقفي التزييف والكراهية.
ليست الحدود سببا لسوء الجوار ,وليس للثقافات حدودا مشتعلة و لا معارك وصراعات حضارية.فكل ما علينا فعله هو رعاية مشاريع ثقافية بانية من على الضفتين حتى يتخلى الشرق عن قابليته للحدود والتقسيم والاغتراب, ويتخلى الغرب عن دافعيته للعدوان وفكره الإمبراطوري الاستعلائي الصدامي.