الافتتاحية
 
الافتتاحية

 

في الحـــاجــــــة إلى فــــعــــل ثــــقـــــافـــي

 

       كانت مجلاتنا العربية العتيدة تستهل صفحاتها الأولى بعمود صغير قصير في أعلى الصفحة الثانية أو الثالثة، إذا كانت الثانية مخصصة لفهرس المواد، يحمل عنوان: عزيزي القارئ. عادة ما يكون عبارة عن استهلال قصير، من بضع جمل، سيما على مستوى المجلات الثقافية الشهرية........

     أشياء كثيرة تغيرت، و انتقلنا من عزيزي القارئ إلى عزيزي المتصفح و المبحر و الزائر و الزائر عن طريق الخطا ! ….حيث أضحى اليوم من الصعوبة بمكان استنساخ التجربة بحذافيرها على المواقع الإلكترونية للمشاريع الإعلامية الثقافية و الفكرية..... لأن القارئ الجاد لم يعد هو نفسه القارئ و فقط ! بل بات مبحرا و متصفحا ! و فرق كبير بين القارئ و ما بين المتصفح و المبحر، خاصة المبحرون عن طريق الخطأ الذين عبر نقرة ما قد يجدون أنفسهم بين أحضان قوم يتكلمون لغة الثقافة و يستشهدون بالرافعي و المتنبي و بسارتر و ماركس؛ و هيغو و طه حسين و مالك بن نبي و عماد الدين خليل….فنحن نعيش زمن أو ربما أزمنة الثورة الرقمية، و التي طوت المسافات و الأزمة و الأمكنة، و جعلت النشر و التواصل و التفاعل أسهل ما يكون…. و بأي لغة و في أي رقعة على البسيطة. تحولات مذهلة لم يكن العقل البشري يحلم بمعشارها ! فهل ما يزال القارئ قارئا أم أن يد الثورة الرقمية قد طالته بدوره  و حورته و عورته و كورته ؟

 

    في تقديرنا؛ إن القارئ هو الأصل، و فعل القراءة مثله مثل فعل الكتابة ترجمة ميكانيكية آلية للفكرة، فما يهمنا ليس الفعل بقدر ما تهمنا الفكرة. و الفكرة التي صنعت الكتاب و المجلة و الجريدة و الموسوعة هي نفسها الفكرة التي اخترعت الإنترنت/الشابكة و الحاسوب و عوالم البينير (0؛1). و لا بد من التمييز بين الفكرة كقيمة خالدة غير ملموسة، و بين تنزيلاتها الملموسة المتجددة المتغيرة.

    سيظل المتصفح و المبحر و الزائر قارئا، و لن نتعالى عن القراءة و لا عن الكتابة لأنها مجرد تنزيلات للفكرة و للكلمة الخالدة. و هذا لا و لن يتناقض مع الواقع، بل إن أصل كلمة قرأ يقرأ هي جمع، و ما يحدث على مستوى الشابكة/ الإنترنت هو جمع و تجميع بطريقة مذهلة خارقة تفوق كل خيال ! و لكنها في المحصلة عملية جمع و تجميع. و قد توهم قوم عن طريق الخطا و ربما الغرور بأن زمن الكتاب قد ولى إلى غير رجعة....

                و هذا قمة التعالي و الغرور ! فإذا كان المقصود بالكتاب هو ذلك الشيء المكون من أرواق مجموعة، فأكيد أنهم يقصدون الشكل فقط، و طبيعي أن تتغير الأشكال بتغير و تطور  أنماط الحياة و فعل الخبرة البشرية و التجربة التاريخية، و منها الصناعة الورقية و صناعة الكتاب. فالكتاب في الأول لم يكن على الورق بل كان على الكهوف، عبارة عن نقوش و كتابات، ثم جاء دور الوبر و البرديات و الكتابة على الجلود، ثم اختراع الصينيون الورق، و جاء دور غوتنبورغ باختراع الطباعة و تطوير عملية النسخ و تسريعها و مكننتها، ثم انتقلنا إلى عوالم الطباعة الرقمية، و منها إلى الكتاب الرقمي الإلكتروني بفهارسه المتنوعة و إمكانات البحث و الإحصاء و التحليل المهولة. ثم يخلق الله ما يشاء و يفتح على من يشاء...

         هذا على مستوى الشكل؛ أو الحامل تحديدا the support. أما على مستوى الفكرة التي هي الروح و المتن فلم تتغير و لن تتغير، فالفكر و الأفكار هي نفسها الأفكار، و التي هي أقرب منها إلى روح خالدة تسري في الأفراد و الشعوب و الأمم و الحضارات، لم تتغير ماهيتها بتغيير الأزمنة و الأمكنة. لأنها ستظل روحا و سرا من أسرار الله تعالى، بل و شاهدا سرمديا على تكريم الله تعالى للإنسان و للإنسانية و تفضيله على غيره من المخلوقات بمزية "الكلمة"، روح الله تعالى و كلمته، ناهيك عن تكريمه للأمة الخاتمة الشاهدة، أمة اقرأ، التي تكاسلت عن مهمتها،و تقاعست عن أداء رسالة اقرأ ! و ذاك حديث هذه التجربة الثقافية الإعلامية الوليدة.ومشروعها في الثقافة البانية واختراقاتها لاختلالات المجتمع ومؤسساته.

   "الثقافة البانية" *مشروع ثقافي للإقلاع الحضاري* أطلقه الدكتور حسن الامراني مند أكثر من ثلاثة عقود. واحتضنته العديد من المؤسسات مثل  مجلة المشكاة وجمعية النبراس اللتين ظلتا مصرتين على الاستجابة لنداء الإقلاع وضرورات  إحداث ذلك الزلزال الثقافي أو الاستجابة لحدوثه أو على الأقل التبشير به.

وخلافا للعرض الثقافي أنداك- الثقافة السائدة والثقافة المنبتة- كان البحث عن  هوية لثقافة بانية فاعلة تنمي نوازع الإنسان فيه.يقول الدكتور حسن الامراني إن الثقافة مالم تتحول إلى فعل أو تعمل على دفع الإنسان للفعل. تفقد شرائط وجودها وتصبح نوعا من الترف الفكري الذي يكبل الطاقات ويعوقها عن الانطلاق.

   حيث عرف العالم الإسلامي بالموازاة مجموعة من المشاريع الثقافية لتجديد البناء الثقافي للأمة من خلال ملء مساحات الفراغ الثقافية وطرح أسئلة جديدة تناولت الاجتماع والمعرفة والاقتصاد والأدب والفقه... من منظور إسلامي ومقاربة منهجية متحررة من ثقل التراث ومن ضغط الغرب، أملا في تجديد  سياقات الخطاب الثقافي العربي بعيدا عن سياق الاغتراب والأزمة والاستهلاك الثقافي الترفيهي.

وتزداد الحاجة في زمن التحولات الثقافية التي باتت تخترق النسيج المجتمعي عبر طوفان الإشكالات والأسئلة والقضايا التي أصبحت وظيفة من لا وظيفة له وهم من لا هم له، عوض أن نجد أنفسنا أمام مشاريع ثقافية ذات مرجعيات واضحة مهما اختلفت أسسها.

   تزداد الحاجة إلى الخروج من هذه الأزمة والمساهمة في بناء القضايا الثقافية العامة من منطلق مشاريع مجتمعية متكاملة و مسؤولة،  فلا ثقافة للتدبير المجتمعي بدون تدبير مجتمع ثقافي، يحضر فيه الفاعل الثقافي الإعلامي بقوة تجاوزا لهيمنة الفاعل السياسي والاقتصادي ذاته .

    كما تزداد الحاجة إلى بناء مشاريع ثقافية إعلامية جادة تستفيد من التطور المعلوماتي والتقني .بعيدا عن إعلام التزييف واغتيال الوعي واعتبار الإعلام الثقافي مجرد صناعة إعلامية يتحكم فيها جنرالات الإعلام  ومهربو الحقيقة بعيدا عن سلطة المثقف وتوجيهه بل وشرفه.  فإذا كان المطلوب هو تمكين الثقافة البانية من مشاريع عمل وفعل، فإن المقصود أيضا وخاصة تمكين الثقافة البانية من وسائط  فعل وعمل ، أي بناء إعلامي ثقافي وازن يستفيد من الميديا الجديدة ومن فضاء التواصل الافتراضي بنفس عمق وجدية الفعل الثقافي الذي يهدف إلى تمكين المجتمع من مشروع ثقافي كامل ومتكامل يصنع الأسئلة الحقيقية للمجتمع ويقود مشاريعه السياسية والاقتصادية والاجتماعية وليس العكس.

   إن هذا المشروع الثقافي المجتمعي المنشود رهين بتمكين مشروع الثقافة البانية من تملك قضاياه الحقيقية المرتبطة بالأسئلة المجتمعية الحارقة والمنطلقة من شبكة مفاهيمية منسجمة ومتكاملة .

 فلسنا أمام ترف فكري… ولا عبث فكري…… ولا صراع فكري.

لهذا تضع المجلة أمام كتابها والباحثين والقراء مجموعة قضايا ومشاريع بحثية تنطلق من:

-  سؤال القراءة الواعية

-  تجديد الخطاب 

- البناء القيمي

- التعارف الحضاري

- الرؤية الجمالية

- الموقف المقاوم

- التنمية الحضارية

- البناء الرمزي للهوية

- العمران المؤسسي للوحدة.

                                           

   و ينطلق- بعون الله -  فعلنا الثقافي بأحلامه وآماله و آلامه... بكم ومعكم من اجل ثقافة عالمية بانية.

...ويستمر المشروع 

                      هيئة تحرير المجلة/ يناير2014



الأكثر قراءة

تنمية الذات: حيث التغيير يبدأ من الداخل

يثير مصطلح التنمية الذاتية نقاشا واسعا بين مختصين في حقول معرفية متعددة؛ إذ نجد له تعاريف في برامج الأمم المتحدة التنموية، وفي الموسوعات، وفي المعاجم التقنية ...


الإسـلام و الآخــر

لقد أصبحت الحضارة الغربية الحديثة تهيمن بخيرها وشرها على الأفكار والثقافات، وتطبع الحياة وتفاصيل الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي.. ...


الثقافة البانية بين تحديات واقع الأمة وتحقيق العالمية

مما لا شك فيه أن أمتنا الإسلامية تعاني من مشاكل عويصة وعاهات كثيرة؛ كما أنها تواجه تحديات كبرى على جميع الأصعدة، وخاصة منها الصعيد الثقافي والحضاري ...


الجمالية البانية

يعتبر هذا العنوان مقابلا للجمالية الهدامة ، فمن المعروف أن في علم الجمال جماليات متعددة ، من حيث النوعية ، ومن حيث الغاية ، فهناك جماليات أخلاقية السينما وجماليات الشعر وجماليات الموسيقى ...


صفحتنا على الفيسبوك