تنمية الذات: حيث التغيير يبدأ من الداخل
محمد مريني
يثير مصطلح التنمية الذاتية نقاشا واسعا بين مختصين في حقول معرفية متعددة؛ إذ نجد له تعاريف في برامج الأمم المتحدة التنموية، وفي الموسوعات، وفي المعاجم التقنية الخاصة. وهناك تدقيق لهذا المصطلح بالمقابلة بينه وبين التنمية البشرية (على اعتبار أن العلاقة بين المجالين هي علاقة تحديد وتكامل؛ أي أن مفهوم التنمية البشرية يحد مفهوم تنميه الذات، كما يحد الكل الجزء فيكمله ويغنيه، ولكنه لا يلغيه...).
نترك كل هذا، ونقدم تعريفا بسيطا لهذا التركيب الاصطلاحي المكون من كلمتين: هناك الذات من جهة، وهي ذات الفردية. وهناك التنمية؛ بما تعنيه من تطوير ونماء. أن التنمية الذاتية عملية موجهة إلى الداخل لاستكشاف وتطوير المهارات والقدرات. ويبقى الأساس الفكري لمشاريع التنمية الذاتية هو القاعدة التي مفاده أن تغيير العالم يبدأ من الذات. لذلك هناك تأكيد في أدبيات التنمية الذاتية على أن ظروفنا وأحوالنا لن تتغير ما لم تتغير ذواتنا، وأن تغيير العالم يبدأ من داخلنا، فالنجاح أو الفشل يتوقف أساسا على الإنسان وليس على الظروف الخارجية. ومما لا شك فيه أن الأساس المذكور يشكل جوهر الإسلام في التغيير. وهذا ما سنحاول بيانه من خلال الآتي:
1- الأصول:
ينبدأ بالقرآن الكريم الذي أعطى للذات أهمية قصوى. تنمية الذات من منظور القرآن الكريم، هو تحليتها بالفضائل ومكارم الأخلاق، محاسبة الذات، والمراجعة المستمرة لها. الانطلاق من العالم الداخلي للإنسان. فتنمية الذات تأخذ هنا بعدا تربويا وأخلاقيا. لنرى بعض النصوص القرآنية التي تحمل هذا المعنى:
- يقول تعالى: "لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة"[i] تثير هذه الآية المعاني التالية:
"لا أقسم" بمعنى "أقسم"، القسم بماذا: بيوم القيامة، وبالنفس اللوامة. مسألة "اللوامة"؛ بهذه الصيغة تسمى من الناحية الصرفية صيغة المبالغة. النفس اللوامة هنا تحمل معاني: محاسبة الذات، والنقد المستمر والمراجعة المستمرة للنفس. نلاحظ أن الله يقسم بها لأنها على مستوى عظيم في درجات الإقبال على الله.
- "وكل آتيه يوم القيامة فردا"[ii]
- "كل نفس بما كسبت رهينة"[iii]
- إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم"[iv]
- "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها"[v]
- إن أول قصة عرضت في القرآن الكريم هي قصة آدم والشيطان، وإن بعض الأفكار الحيوية التي ينبني عليها السلوك الصحيح تتدفق من هذه القصة.
إن الفرق الحاسم الذي فتح طريق الخير للإنسان هو موقف أبينا آدم عليه السلام من المشكلة التي حدثت حين اعترف بالخطأ، من خلال عملية الرجوع ومحاسبة الذات: "قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين"[vi]
اعتراف بظلم النفس، فهو ينطلق من العالم الداخلي، ولا يبحث عن كبش فداء، عن الظلم الواقع عليه من الخارج.
في المقابل، فإن الذي فتح باب اللعنة على إبليس هو عدم الاعتراف بهذا الجانب، بل هو يتبجح قائلا: "أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين"[vii]
فآدم يقول بعد مراجعة نفسه: إني ظلمت نفسي، والشيطان لا يراجع، بل يقول: أنا خير منه.
أن هذا الموقف الذي يمثل افتتاح مسرحية الوجود يقابله في مسرح يوم القيامة الشيطان، وقد تعلم هذا الدرس تماما، فهو يقف في الناس خطيبا يوم القيامة ليقول لهم: لوموا أنفسكم، ولا تلوموني: "وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم"[viii].
إن هذه القاعدة أبرزت نماذج بشرية قد تشبعت بهذه الروح: فموسى يرتكب خطأ، فيقتل نفسا بغير حق فيقول: "رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي"[ix]. ويونس يذهب مغاضبا فلما وقع في بطن الحوت، قال: "سبحانك إني كنت من الظالمين"[x].
إذا كان مفهوم الذات ينصرف هنا إلى الذات الفردية فهناك آيات أخرى تحيل على الذات الجماعية. لنر ذلك من خلال هذين المثالين:
المثال الأول: يتعلق بقصة أصحاب الجنة كما وردت في سورة "القلم":
-"إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون"[xi]
- "فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم"[xii]
- "فتنادوا مصبحين. أن أغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين"[xiii]
- "فانطلقوا وهم يتخافتون. أن لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين. وغدوا على حرد قادرين"[xiv].
- "فلما رأوها قالوا إنا لضالون. بل نحن محرومون"[xv]. الإسقاطات على العالم الخارجي
- "قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون"[xvi].
- "قالوا سبحان ربنا أنا كنا ظالمين. فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون. قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين. عسى ربنا أن يبدلنا خيرا منها انا إلى ربنا راغبون. كذلك العذاب ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون"[xvii].
المثال الثاني: يتعلق بالآيات التي وردت في سورة "آل عمران" تعليقا على هزيمة المسلمين في معركة أحد: عندما انهزم المسلمون، تساءلوا كيف وقعت الهزيمة، إن الرسول (ص) لا زال يعيش بين ظهرانينا. جاء الخطاب القرآني لكي يقول لهم: أنتم السبب في ما حصل: "أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم"[xviii].
من خلال هذه التوجهات العامة التي وردت في القرآن الكريم، نكون أمام تصورات جديدة تختلف أولوياتها: فالحقوق تأتي ليس بالمطالبة فقط، بل بالقيام بالواجب. والاستعمار ظاهرة امتصاصية لوجود القابلية لها، والحضارات تنتحر داخليا. والدول تنهزم بالتفكك الداخلي، والعضوية تمرض بضعف المقاومة أكثر من سطو الجراثيم، وسقوط الغصن يكون بالنخر الداخلي أكثر ما يكون بزوبعة الريح...وهكذا وصدق الحديث القدسي الذي ورد فيه: "يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه"
2- الامتدادات
هذا التصور الذي يركز على الجوانب الداخلية للظاهرة في علاقتها بالذات الفردية. ودائما في سياق تقديم ما أسميته: "قراءة تحسيسية في الأصول والاتجاهات":
- نقف عند علم التصوف أوعلم السلوك، ولسنا هنا بصدد التعريف بهذا العلم، ولكن نثير الانتباه إلى تمثل الصوفية لهذه القيم التي ذكرناها سابقا. ونكتفي هنا بالإشارة إلى علم واحد من أعلام التصوف: وهو أبو حامد الغزالي في كتابه "إحياء علوم الدين"[xix]. الدين كان موجودا في عصره، في القرن الخامس الهجري، لكن أبا حامد أراد أن يحييه. كيف ذلك؟ يتناول فيه الغزالي أحكام الإسلام وعقائده وأخلاقه من خلال التركيز على الأسرار الداخلية في هذه الأحكام: فحين يتحدث عن الصلاة، التي كان الفقهاء يركزون فيها على الشروط والقواعد الخارجية: مثل عدد الركعات، الأركان....يأتي هو فيركز على شيء أساس هو الخشوع. الزكاة مثلا كانت التفسيرات التي تعطي زمن أبي حامد الغزالي تركز على الجوانب الفقهية. لكن أبا حامد الغزالي يثير علاقة الزكاة بالتزكية الذاتية في نفسية الإنسان الذي يعطي الزكاة.
3- المحطة الثالثة التي نقف عنها في سياق البحث على ما يمكن أن يشكل إرهاصات التنمية الذاتية في حضارتنا هو مالك بن نبي ومشروعه الحضاري الكبير، خاصة كتابه "شروط النهضة" الذي طرح فيه فكرة "القابلية للاستعمار"، وفي سلسلة الكتابات التي كتبها حول "مشكلات الحضارة"[xx]. يعني ذلك أن البلدان العربية الإسلامية استعمرت لأنه كانت لديها القابلية للاستعمار، فالمسألة ذاتية وليست خارجية. أفتح القوس لأشير على سبيل البسط إلى كتاب آخر، عنوانه "القابلية للاستحمار" وليس للاستعمار فقط. كما قال مالك بن نبي كتبه. الأمر تعلق هنا بكتاب "النباهة والاستحمار" للمرحوم علي شريعتي.
وقد تابع مجموعة من تلامذة المرحوم مالك بن نبي هذا المشروع الذي ينظر إلى مشكلات العالم العربي الإسلامي من زاوية الرؤية النقدية الداخلية: أذكر من هؤلاء التلاميذ الدكتور خالص جلبي، وجودة سعيد: الأول في كتابه النقد الذاتي. والثاني في مجموعة من الكتب منها: حتى يغيروا ما بأنفسهم- وكتاب فقدان التوازن الاجتماعي- والإنسان حين يكون كلا وحين يكون عدلا.
4- أقفز مباشرة إلى الحلقة الأخيرة من هذا التوصيف السريع لمفهوم التنمية الذاتية، متمنيا أن لا يكون أن لا يكون مخلا بسبب التكثيف والإيجاز، لأن الوقت لا يسعف على الإطالة:
التنمية الذاتية كما تطرح حاليا من خلال العديد من المنابر: وفيها يتقاطع الموضوع مع العديد من المصطلحات التي تتفق في أشياء وتختلف في حيث أشياء أخرى: مثل التنمية البشرية- البرمجة اللغوية العصبية- التفكير الإيجابي...إلى آخره. مفهوم التنمية هنا مفهوم وافد من الغرب، من أمريكا تحديدا؛ حيث تسود الثقافة النفعية البراكماتية. في المشرق العربي ستظهر الكثير من الكتب والترجمات والتداريب والأنشطة التكوينية، والمراكز الخاصة، مثل "مركز الراشد" والفضائيات (قناة "سمارت"، وقناة الرسالة...). وظهرت أسماء ارتبطت بالموضوع: مثل المرحوم د. إبراهيم الفقي- ود. طارق السويدان- ود. صلاح صالح الراشد وغيرهم.
يمكن أن أشير بعجالة إلى أهم المهارات والقدرات التي ركز عليها هذا الجيل الجديد من المصلحين الذين اشتغلوا على التنمية الذاتية، بل سأمثل بالقدرات والمهارات المضمنة في أهم كتاب مترجم إلى اللغة العربية؛ أعني بذلك كتاب "العادات السبع للناس الأكثر نجاحا"[xxi]
أولا المهارات المتعلقة بالذكاء العاطفي أو الرشد، وإدارة الذات.
ثانيا ما يتعلق بالتفكير الإيجابي والتفكير السليم.
ثالثاً: روح المبادرة والتفاؤل والتفكير الإيجابي
رابعاً: المهارات المتعلقة بالتكيّف والمرونة وقبول الآخر.
خامساً: إدارة الوقت
سادساً: وضوح الهدف.
سابعاً: فهم آليات التفاوض: في الحياة الشخصيّة كما في العمل لا نحصل دوماً على ما نستحقّه، بل على ما نعرف كيف نفاوض عليه.
ثامناً: المواصفات الشخصية التي تجعلنا نقوم بأعمال ومواقف تعزّز رصيد احترامنا لأنفسنا وثقة الآخرين بنا.
تاسعاً: الفكر الاستراتيجي واتخاذ القرار: أي معرفة آلية اتخاذ القرارات.
عاشراً: التوازن بين العقل والجسم والروح: نولي اهتمامنا بعملنا وعائلتنا وصحتنا، ونكرِّس وقتاً للاستعداد لإتقان عملنا، ونكتسب مهارات جديدة نرفع بها مستوى معيشتنا د
[i] سورة القيامة، الآية: 1
[ii] سورة مريم: 80
[iii] سورة المدثر: 38
[iv] سورة الرعد: 11
[v] سورة الشمس: 7
[vi] الأعراف: 23
[vii] سورة ص: 76
[viii] سورة إبراهيم: 22
[ix] سورة الأنبياء: 87
[x] سورة القصص: 16
[xi] سورة القلم: 17
[xii] سورة القلم: 18
[xiii] سورة القلم: 21
[xiv] سورة القلم: 23
[xv] سورة القلم: 27
[xvi] سورة القلم: 28
[xvii] سورة القلم: 29
[xviii] سورة آل عمران، الآية: 165
[xix] أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1986
[xx] مالك بن نبي، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، ترجمة: د. بسام بركة، د. أحمد شعبو، إشراف: المحامي عمر مسقاوي، دار الفكر، سوريا، 1977
[xxi] ستيفن ر. كوفي، العادات السبع للناس الأكثر فعالية، دروس في فعالة في عملية التغيير الشخصي، مكتبة جرير، 2005