(وقفات تاريخية سريعة بين الحوار والصراع)
د.محمد البنعيادي
لقد أصبحت الحضارة الغربية الحديثة تهيمن بخيرها وشرها على الأفكار والثقافات، وتطبع الحياة وتفاصيل الواقع الاجتماعي والسياسي والثقافي... بطابعها الهيمني، حتى كاد الإنسان لا ينتظر بديلا عنها ولا يتطلع لمصحح لعيوبها وانحرافاتها، مع أن الإخلاص للحضارة الإنسانية يقتضي معرفة محاسنها ومساوئها لتستمر سنة التصحيح والترشيد الحضاريين.
ومما يؤسف له أن التحدي الغربي القائم اليوم يكتسي طابعَ مواجهة حضارية شاملة مفتوحة على المستويات الدينية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وهي مواجهة تبدو مصيرية مادامت الحضارة الغربية اليوم تعتزم اكتساح الحضارات الإنسانية وخاصة الإسلامية، وشلَّها حتى لا تقوى على النهوض مرة أخرى.
وبسبب هذه الهيمنة الشاملة أصبحت تتعالى الأصوات داعية إلى الحوار وإتاحة الفرصة لتبادل الرأي، للوصول إلى قناعات معينة، وللتفاهم والتعاون وتلافي الصراع والتناحر بين الأمم والشعوب، وتأمين استقرار كوكبنا واستمراره، ومن ثم الرقي بمجتمعاتنا الإنسانية إلى (كمالاتها) الممكنة.
ثم إنه، كلما حلت بالعالم أزمة برزت على السطح نداءات للحوار بين الحضارات، هذه النداءات استفحل وقعها الإعلامي بعد 11 سبتمبر2001 لتصبح شعارا يرفعه الجميع، يرفعه الضعيف خوفا من بطش القوي، كما يرفعه القوي لتهدئة روْع الضعيف إلى حين تحقيق أطماع القوي، لذلك فإن هذا الحوار– حتى الآن - لا يعدو أن يكون حوار أزمة يُلجأ إليه في الظروف العصيبة ثم يأفل أثره بعد حين، حتى بات من حقنا أن نتساءل: هل هناك فعلا حوار بكل ما تحمله الكلمة من معاني الاعتراف والتعارف ثم التبادل والاحترام؟
ولمعرفة واقع الحوار اليوم وتشخيص حالته، يجد بنا الحديث أهم المحطات التاريخية التي تم خلالها الاحتكاك بين الإسلام و(الآخر)، لأن الواقع لا يمكن فقهه جيدا إلا بالدراسة الواعية للماضي، ولذلك أقترح عليك – عزيزي القارئ- ضمن هذا العدد المحاور التالية:
مرحلة الجذور: عصر الرسالة
لقد كان الشرك يمثل التحدي الكبير لحركة الرسالة في المجتمع الإسلامي الأول، باعتباره العقبة الكبيرة التي تقف حاجزا بين الرسالة وبين الامتداد في حياة الناس، لأنه لم يكن شيئا طارئا في حياتهم، بل هو منهج حياة، ونظام مجتمع، وكانت الرسالة تمثل التحدي الكبير لعقيدة الشرك باعتبارها العقيدة التي ينطلق التوحيد فيها من مركز القاعدة الأساسية التي يتحطم عليها كل فكر للشرك وكل سلوك عملي ينطلق منه... حتى الأشياء الخفية التي تجسد إحساس الإنسان بعلاقة الآخرين بحياته وارتباطها بهم... ونلاحظ في أساليب الرسالة – في مقابل ذلك- التحرك الهاديء الوديع الذي يفتح قلوب المشركين على فكرة التوحيد فكرا وعملا، ويفرغ أفكارهم تدريجيا من كل معاني الشرك ودوافعه في خطة مدروسة حكيمة، تضع لكل موقف خطوطه الواضحة... وهذا هو ما سلكه الإسلام في أساليب القرآن الكريم التي أطلقها النبي محمد r في حركة الحوار، فلم يكن من الممكن أن يسلك غير ذلك لأنه يتحرك من قاعدة الإحساس المطلق بالثقة بقوة فكره في مقابل ضعف الآخرين([1]). ونجد النبي r ينطلق في دعوته على أساس اعتبار البرهان على الفكرة سلبا وإيجابا أساسا للرفض أو القبول، ثم محاولة تحريك الفكر الإنساني للبحث في التفاصيل للإحاطة بكل جوانب الموضوع، فإذا أدى الحوار إلى النتيجة المتوخاة فقد حققنا الهدف منه، وإذا لم تحصل منه على نتيجة حاسمة... فالموقف الحكيم في إطار الإيمان، هو ترك كل فكرة تمارس حركتها بعيدا عن كل اعتداء وبغي، ما لم تؤد تلك الحركة إلى الإخلال بالنظام، إذ إن الإسلام يمد يده إلى مخالفيه في الرأي ليحاورهم ويجادلهم بالتي هي أحسن ] فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ[([2]) ([3]). هذا هو الطابع العام لمرحلة النبوة في علاقتها بدعوة الآخرين، وهي مرحلة اقتداء بالنسبة لنا، لأن الاقتداء بمرحلة النبوة جزء من الدين وجزء من الإيمان لقوله تعالى: ] لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [ ([4]). ويقول الرسول r: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)([5]) فهي الفترة التي تشكل المرجعية والقدوة بالنسبة للمسلم في تنزيل الإسلام على الواقع، وتجسيد قيمه في حياة الناس وتقدم الأنموذج الذي تعاير به سائر مراحل التاريخ الإسلامي والتاريخ العام وتكسب المقياس الذي تتم في ضوئه إدارة الحوار مع المخالفين.
فلم يكن الحوار مع (الآخر) المختلف طارئا على فضاء الحضارة الإسلامية ومنهجها في الدعوة إلى الله تعالى، بل مارس المسلمون الحوار مبكرا على مستويات شتى، مع حضارات وديانات ذات منحى فكري فلسفي لا يلتقي بالضرورة مع الأفق الفكري الفلسفي للرسالة الإسلامية، بيد أن نقاط الالتقاء أسهمت في خلق مناخ ملائم لاستعراض الأفكار ومعالجة الإشكاليات التي ارتهنت عقل الآخر وأثارت تحفظاته ضد القيم الجديدة، وكان المنهج القرآني حاضرا في الحوارات العقيدية والفكرية، وكان المسلمون أشد حرصا على الانطلاق من نقاط الالتقاء استجابة لقوله تعالى: ]قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون[ .
وقد تطورت العلاقة في ظل المنهج القرآني إلى مستوى الدخول في دين الله أفواجا بعد التخلي عن ترسبات الماضي الثقافي الجاهلي والانفتاح على الحضارة الإسلامية الوافدة الجديدة.
وبأسلوب (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ) حسم المسلمون الحوار والمعارك الكلامية، وفتحوا أمام الدعوة الجديدة آفاقا رحبة امتدت لتصل أقاليم الشرق والغرب، متحدية بنموذجها كل الحضارات البشرية القائمة على الجهل واللادين، وهو نموذج فرض نفسه عبر معطيات منجزه الحضاري الذي أثر في الحياة، وأفاد الأمم بزخم معرفي انتزعها من واقعها السيء، وارتقى بها إلى مستوى إنساني رفيع في أعقاب ردح طويل من الزمن عاشته في ظل عبودية استبدادية قوامها القوة والعنف والتزوير. ولم يواجه الحوار الحضاري الإسلامي في مراحله الأولى تحديا إلا من قبل شعوب كانت تحتفظ بأنساق فلسفية وسياقات فكرية تتحكم في أداء العقل وتمنع أي مراجعة من شأنها تقويض البنى الفكرية له. فاضطرت هذه الشعوب أخيرا إلى التكيف مع الوافد الإسلامي بعد مقاومة عنيدة، ونجحت في تقديم نموذج حضاري إسلامي ممزوج بفضائل موروثها الثقافي.
كما لم يتخلَّ المسلمون عن شروط الحوار مع الآخر، رغم تماديه وإصراره على التمسك بموروثه الثقافي المثقل بحمولته الفكرية اللادينية واللاحضارية في أحيان كثيرة. فلم يرفضوا الآخر ولم يتعالوا عليه، وظل بعده الإنساني نقطة مضيئة في نسيج الحضارة الإسلامية. وبهذا الشكل ظلت العلاقة تحتضنها الروح الإسلامية بخصائصها الإنسانية وبشجاعتها في الانفتاح على الآخر مهما كانت درجات الاختلاف ونسبها معه.
وقد أثمر الانفتاح تخصيبَ العلاقة وتطويرَها، ومن تم استثمار العناصر الإيجابية في الحضارات الأخرى بغية تمثلها وإعادة صياغتها في ضوء البنى الفكرية والعقيدية للحضارة الإسلامية. ولعل الترجمة عن اليونان والفرس والهنود والروم تؤكد صدقية الإسلام في الانفتاح على الحضارات الأخرى، كما أن نجاح الإسلام في إقامة دول في: المدينة المنورة، والشام، وبغداد، والقيروان، والمغرب، والأندلس، وآسيا الوسطى، وتركيا، يؤكد حجم التأثير في الأوساط التي امتد إليها بفعل الغزارة المعرفية والعلمية والقدرة على توصيل المعرفة الإسلامية للآخر في إطار الشمولية الإسلامية.
لذلك لم يكن الغرب – في شتى مراحل تطوره- بعيدا عن التأثر بإشعاعات الحضارة الإسلامية، وقد اعترف كثير من علمائهم بفضل الثقافة الإسلامية على تطور العنصر العلمي والمعرفي الغربي الذي أوجد النهضة الحضارية الحديثة.
وعندما نراجع فصول الحوار الحضاري التي خاضها المسلمون في القرون الأولى من تاريخ حضارتهم، لا نجد أي إشكالية تعيق حركة الحوار آنذاك أو تغير وجهته، فإشكاليات الحوار الحضاري مع أي حضارة، تتلخص في: الاعتراف بالآخر المختلف وعدم إلغائه وتهميشه، والقدرة على الانفتاح والتفاعل الثقافي معه.
فـ(الآخر) في الهدي الإسلامي- أيا كان انتساب الفرد الديني والعرقي- يتصف بذات المواصفات الإنسانية للفرد المسلم، وحينما يعتنق الإسلام يقف على قدم المساواة في الحقوق والواجبات مع جميع المسلمين بقطع النظر عن انحداره الطبقي أو القبلي أو الإقليمي. وقد جاءت معظم خطابات القرآن الكريم موجهة إلى مطلق الإنسان:"يأيها الإنسان... ""يأيها الناس.. "واعترفت تلك الخطابات القرآنية أيضا بمعتنقي الديانات الأخرى: "يأهل الكتاب"، ولم يشعر المخاطب بأي لون من ألوان التهميش أو الرفض. ولم يعش الآخر في ظل النموذج الحضاري الوافد عليه أية دونية أو تبعية تختزل الإنسان أو تشيئه، وظلت تشمله-كغيره من المسلمين-قيم التفاضل على أساس التقوى، بعيدا عن اللون واللغة والجنس.
إن الانفتاح على الآخر المختلف مبدأ قرآني رسخته جملة من آيات الذكر الحكيم، ومارسه المسلمون بثقة عالية دون تردد أو وجل، حتى توغلوا في (الممنوع) وناقشوا أخطر القضايا بما فيها الغيب والمسلَّمات الإيمانية، وكان رائدهم في كل ذلك المنهج القرآني الصريح في تعامله مع القضايا الفكرية والعقدية([6]).
إن هذه الأرضية القرآنية والنبوية وفرت مناخا صالحا للحوار وساعدت على تطوير الفكر وتوالد المعرفة، ونجح المسلمون في اقتحام الموانع الفكرية المصطنعة وتواصلوا مع الفكر الآخر، يستنطقونه ويفعِّلون عناصره الإيجابية ليتمثلوها ويعيدوا بناءها.
لذلك، حقق الحوار الحضاري نتائج كبيرة على صعيد نشر الرسالة في أرجاء واسعة من العالم رغم تنوع الثقافات التي صادفت المد الإسلامي، إلا أن تلك الثقافات لم تشكل تحديا صعبا يعرقل حركة الإسلام، أو يحد من قوة تأثيره في نفوس الشعوب التي انفتحت توا على إشعاعات حضارته، بعدما وجدوا فيها صدقية واضحة في دعاواها الإنسانية([7])
في أطوار مرحلة الحوار الحديثة
مما لا شك فيه أن الحوار العربي/ الإسلامي – الغربي مر أولا بمرحلة تنابذ حصل فيها حوار تنافري كان هو الحوار الحضاري الأول الذي وجد فيه التطور الحضاري الاسلامي مع التقهقر الغربي، ثم بعد فترة انتقالية طويلة حصل فيها التجاذب القسري وانتهى الأمر بحوار ثان، اختلفت فيه مواقع الطرفين تماما، حيث التطور الحضاري الغربي مقابل التقهقر الحضاري الاسلامي، وأخيرا هناك مرحلة لقاء "ثالث" هو الحوار الحضاري الجديد/الحالي، فلنأخذ كل زاوية على حدة، ولننظر من خلالها إلى الحوار الإسلامي-الغربي في جدالهما التاريخي المستمر:
1- حوار التنافر الحضاري
نعني بذلك الحوار الذي دار في ظل حضور الحضارة الاسلامية مع التأخر الحضاري الغربي، لا سيما أنه أثناء القرن الثامن والتاسع والعاشر الميلادي كاد النظام العالمي العربي الإسلامي أن يسيطر كليا على العالم، فبينما كانت الأيديولوجية الغربية تتعثر في ظل سيطرة الكنيسة وحليفها الإقطاع، والاستراتيجية الأوربية تتلاشى في ظل التفكك العام، حيث تتقهقر الفاعليات ووسائل الإنتاج وتنعدم الأسواق ويغيب التعامل بالنقود، مع الانكفاء على عمليات الاكتفاء الذاتي وحدود الكفاف، كانت التجرية الإسلامية ترسي دعائمها على قاعدة من "العقلانية الدينية" حيث الإيمان والعقل مرتبطان ارتباطا جدليا في حدود الشريعة. ففي إقليم بلاد الشام والرافدين - مهد الحضارات القديمة - تشكلت مراكز الأمبراطورية العربية الإسلامية في"دمشق" حيث التجربة الأموية و"بغداد"حيث وجود العباسيين، وقد انطلقت الفاعليات التجارية "الظافرة"، فمحورت حولها النشاطات الزراعية وطورتها ونمت في هذه "السوق الإسلامية المشتركة" قوة اقتصادية هائلة، ولم يكن في العالم وقتئذ إلا قوة اقتصادية واحدة هي القوة العربية الإسلامية تدعمها لغة القرآن التي تستجيب لكل دواعي العلم.
في هذه المرحلة كانت أوربا تتحاور من جهة القسطنطينية ومن جهة الجنوب عن طريق البحر المتوسط ومدنه الإيطالية (جنوة، نابولي، فلورنسا... ) وجزيرة صقلية.. كانت تحاور وتراقب تحركات المسلمين منذ معارك القسطنطينية، ولم ينقطع الحوار يوما، فلا هارون الرشيد قاطع شارلمان، ولا أمراء الإقطاع ورجال الكنيسة أغلقوا أبوابهم دون السلع العربية الفاخرة والثقافة الاسلامية الوارفة، لكن "الحوار الأول" بين العرب والأوربيين كان يجري في ظل النفور المتبادل، فالأوربيون يخشون قوة المسلمين، الظاهرة والكامنة، والمسلمون بعد عجزهم عن فتح أوروبا باتوا يخشون ردة الفعل الأوربية، لاسيما وأن بيزنطة (والمدن الإيطالية) قد قويت شوكتها منذ القرن العاشر.
ثم جاءت المرحلة الانتقالية التي تمثل صعود المسيرة الأوربية منذ القرن 12م بامتلاكها كل مقومات الصعود وتراجع المنحنى التاريخي الاسلامي نحو الأدنى، حيث أمكن للتقهقر الاقتصادي والاجتماعي والفكري أن يحكم على واقعه نهائيا، ويمكن القول إن الحوار الحضاري الحقيقي قد تم في مختلف المجالات فعلا في هذه المرحلة التي دامت أربعة قرون. حيث أصبحت أوروبا تتطلع إلى الربح مع الاكتشافات الجغرافية المرافقة، وقيام الإمبراطوريات الغربية وإنشاء الشركات التابعة لها في العالم وتوجيه البعثات والإرساليات المختلفة في ظل تحول من النظام (العالمي) الإسلامي إلى النظام (العالمي) الغربي([8]).
2- الحوار في ظل الاستعمار
وينطلق الحوار في ظل الاستعمار منذ القرن السادس عشر حيث وقع الاقتصاد الاسلامي تحت سيطرة الاستغلال الأوربي، وباتت أوربا تستمد موادها الأولية من البلاد الاسلامية، وتصدر إليها موادها المصنعة، فتقضي بذلك على احتمالات النهوض وإمكانيات النهضة في هذه البلاد، وهذا الاستعمار-كانت غايته وأهدافه-استغلال الثروات العربية سالكا في ذلك تمزيق المنطقة الاسلامية، ثم توزيع المواد وعوامل الإنتاج بينها وفق منطق لا يخدم إلا أهداف الاستعمار، فشرد شعبا كان آمنا وأدمى قلوبا كانت مطمئنة، ولم يخرج إلا بعد أن رسخ دواعي الاستعمار الحديث القادر على القيام بالمهمات السابقة نفسها وبأقل كلفة، وهنا برزت فكرة الحوار الإسلامي المسيحي في عالمنا المعاصر مع بداية "عصرنا" إثر انتهاء الحرب العالمية الثانية. وقد تفاعلت في هذا "العصر" ثورة "التقنية" على صعيد العلم "وثورة التحرير" على صعيد السياسة، وما أسرع ما نشبت في دائرة الحضارة الغربية "حرب باردة" بين دول غربية تدين بالرأسمالية و"الليبرالية" ودول أوروبية شرقية تدين بالماركسية، اصطلح على تسميتها "الغرب والشرق". فكان أن اتجه الفكر السياسي في الغرب الرأسمالي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية إلى طرح فكرة مباشرة "حوار إسلامي مسيحي" للبحث في مشكلات عالمية تواجه المسيحيين والمسلمين معاً ودول الغرب ودول العالم الإسلامي التي استقلت، وللوقوف في وجه انتشار "المَدِّ الماركسي الشيوعي" الذي تحاول ماديته "هدم الاعتقاد في القيم الروحية"- على حد تعبير "بايارد دودج" مدير الجامعة الأمريكية في بيروت سابقاً في تقديمه لأعمال "مؤتمر الثقافة الإسلامية في علاقتها بالعالم المعاصر" أوائل الخمسينات الذي انعقد في جامعة برنستون وتضمن في طياته "حواراً إسلامياً مسيحياً"([9]).
هذا الحوار بين من ومن؟ ومن هم أطرافه الحقيقيون؟ ما هي أهدافه الحقيقية؟
بالنسبة لأطراف الحوار: فهو يجري بين أطراف مرئية وأطراف غير مرئية، بين مؤسستين غير متكافئتين هما الجامعة العربية والجماعة الاقتصادية الأوربية.
أما الجامعة العربية فهي لا تمثل الشعب العربي ولا المصلحة العربية المشتركة، بل تمثل نوعا من التوازن المصالحي"اللازم" في ظل الاستعمار الحديث، وهي غير متناسقة وغير متجانسة، تصدر في قراراتها عن مصالح محلية قطرية متنافرة ومتضاربة. أما الجماعة الاقتصادية الأروبية فهي كما نعرف جميعا مؤسسة أروبية رأسمالية، تمثل مصالح الدول الرأسمالية وتلتقي فيها.
إنه حوار بين استراتيجيتين متمايزتين: حيث غياب كل أثر للاستراتيجية العربية الإسلامية التي تنفي نفسها بنفسها حيث يزداد فيها القمع الشعبي ومحاصرة الفكر. أما الجهة الأوربية فتتمثل فيها أهداف جملة من الفضائل الرأسمالية التي صبت (تحت ضغط الهواجس) في إيديولوجية تأزيل (جعله أزليا) النظام الرأسمالي وديموقراطية الغربيين.
وبين اقتصادين: العربي الاسلامي المفكك والأروبي الذي يتهيكل داخل السوق المشتركة، فالأول سلبي لأنه يعني هدر الطاقات المحلية في خط التبعية المستمر... والثاني إيجابي لأنه يعني تلقي تلك الطاقات وتصريف فائض الإنتاج الرأسمالي.
وبين أسلوبي إنتاج متنافرين تماما: الأول أسلوب الإنتاج الرأسمالي غني عن التعريف والثاني أسلوب الإنتاج العربي التخلفي المتحكم بالمنطقة مهما اختلفت فيها أشكال الحكم، يكرسه ويرعى معظمه الاستعمار الحديث([10]).
3- حوار الشعوب
إن حركة التحرر الوطني العربي والاسلامي شكلت حدثا بالغ الأهمية، لأنها التعبير عن إرادة الإنسان العربي والمسلم، وردة فعله المشروعة ضد عهود الاستنزاف الطويلة.
ويمكن القول: إن الحوار الرسمي العربي-الغربي ليس هو الآن إلا"دورانا ومناورة" من الجانب الرأسمالي الأروبي، وليس له معنى الحوار الحضاري إلا من حيث كونه يسير على محور حضاري واحد هو محور الاستعمار الحديث بوجهه القبيح، لذا يحتم فتح باب جديد للحوار العربي/الاسلامي-الغربي السليم، لذا على الغرب/ الشعوب (ليس الغرب النظام الرأسمالي)أن تسترجع في حسها الإنساني أن لها دورا مختلفا عما هو الآن، وهذا الدور يتجلى في أن تتأكد من حقيقة كون نظامها هو نظامَ استغلال ذا وجه لا إنساني. ([11])
لقد تبين –إذن- بأن التصور الإسلامي المنفتح على الآخر، وعلى الاختلاف، كان له دوره الأكيد في التمهيد لبلورة النسبية الحضارية التكاملية، في الثقافة العربية-الإسلامية، كما كان له تأثيره في التأكيد على وحدة الجنس البشري، وإرجاع الأمم المختلفة إلى أصل واحد، وهو ما عبرت عنه الثقافة الاسلامية وممارستها التاريخية بوضوح، حيث لم يقتصر المسلمون على المعيار الديني على حدة في أحكامهم على الأوربيين وغيرهم، ولا على معيار العمران والحضارة على حدة، أو على التحديات الجغرافية البيئية، أو على التأثيرات الكوكبية، بل أخذوا هذه المقاييس مجتمعة عند تفحصهم لما للغير من مميزات وخصائص، ومثالب وفضائل، دون أن يخفوا شعورهم بالتفوق، وثقتهم بقيمهم، ومعايير سلوكهم، ومعانيهم الحضارية في العالم، ودون أن ننسى نحن تأثير طبيعة علاقتهم السياسية بهذا الآخر، أو ذاك، في صياغة بعض أحكامهم، وفي إثارة انتباههم إلى مسائل وموضوعات ساعدتهم على تطوير تجربتهم الحضارية وحفظها من النقائص.
… وللموضوع بقية
والحمد لله رب العالمين
[1] - محمد حسين فضل الله: الحوار في القرآن، ص: 70-71.
[2] - سورة القصص:50
[3] - الحوار في القرآن، ص: 93-94.
[4] - الأحزاب: 21.
[5] - رواه الترمذي وقال :حديث حسن صحيح/باب العلم
[6] -إشكالية الحوار مع الآخر المختلف: ماجد الغرباوي، مجلة التوحيد، عدد خريف:1420هـ/1999م، تصدر عن مؤسسة الفكر الإسلامي:إيران ، ص:5 وما بعدها بتصرف
[7] - إشكالية الحوار مع الآخر المختلف، ماجد الغرباوي ص8
[8] - الحوار مع الآخر في الإسلام: أحمد صدقي الدجاني، مجلة التسامح عدد 2
[9] - نفسه
[10] - المستقبل العربي، ع:70، كانون الأول(سبتمبر)1984، ص:26 وما بعدها بتصرف
[11] - نفسه، ص 45