الثقافة البانية بين تحديات واقع الأمة وتحقيق العالمية
 
الثقافة البانية بين تحديات واقع الأمة وتحقيق العالمية
الثقافة البانية بين تحديات واقع الأمة وتحقيق العالمية

 

 محمد الكوش

مما لا شك فيه أن أمتنا الإسلامية تعاني من مشاكل عويصة وعاهات كثيرة؛ كما أنها تواجه تحديات كبرى على جميع الأصعدة، وخاصة منها الصعيد الثقافي والحضاري. إذ يبدو أن الأمة فقدت أو كادت تفقد بوصلة الحفاظ على توازنها ومناعتها الثقافية والحضارية في خضم الأحداث المزلزلة، والتأثيرات العاتية التي صارت هذه الأمة مسرحا لها.

فبصرف النظر عما عانته جل البلدان الإسلامية من تأثيرات سلبية خلال الفترة الاستعمارية، فإن فترة ما بعد الاستقلال لم تأت بأي جديد يذكر، لأن أغلال التبعية والوصاية الفكرية والثقافية لازالت تكبلها وتمنعها من التحرر الحقيقي والتمسك بشخصيتها الإسلامية المتميزة وهويتها الحضارية. وقد زاد الطين بلة ما شهده عالمنا في العقود الأخيرة من تطورات، حيث أدت الثورة العارمة في المجال العلمي والتكنولوجي إلى المزيد من الارتباك وإلى استفحال خطر ذوبان شخصيتنا وهويتنا الحضارية. فقد أصبحنا فريسة سهلة للرياح الهوجاء  الوافدة من الغرب وباتت قيمنا الإسلامية السمحة في خطر كبير من جراء الهجوم الكاسح الذي يمثله رواج وتفشي القيم الغربية المناهضة، خاصة عند شريحة هامة من شباب الأمة.

في هذا البحر الصاخب من الرياح الفكرية العاتية، والأمواج الثقافية المتلاطمة، يأتي مشروع الثقافة البانية ليفرض نفسه كبديل شرعي وحضاري، يهدف إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإعادة التوازن لسفينة الأمة التي أوشكت على الغرق والضياع. وتستمد هذه الثقافة البديلة شرعيتها وقوتها من كونها—إلى جانب خصائص أخرى هامة—ثقافة ربانية وإنسانية.[i] فهي ربانية لأنها تستند إلى الفطرة، وتنبع من تصور إسلامي وإيماني قوي، دستوره الأساسي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. كما أنها ثقافة إنسانية، لأنها تؤمن وتهتم بالإنسان باعتباره مخلوقا كرمه الله تعالى، ولذلك فهي تسعى جاهدة لخدمته وإرشاده إلى ما فيه خيره، وخير أمته والبشرية جمعاء .

وبما أن "التصور الإسلامي عالمي منذ بداياته،" كما يرى أحد المثقفين المسلمين، بحيث "تشيع فكرة العالمية في جوانبها كلها سواء منها جوانبها العقدية أو الشرعية ، أو رؤيته الكلية للكون والإنسان والحياة،"[ii] فإن الثقافة البانية تسعى لتكون عالمية أيضا، إذ أن رسالتها لا تقتصر على مخاطبة مجتمع بعينه، أو الأمة الإسلامية وحدها، بل هي موجهة عموما إلى سائر الناس في شتى أرجاء المعمور.

هذا صحيح على المستوى النظري على الأقل؛ أما على المستوى التطبيقي فإن ذلك يعني  أن مشروع الثقافة البانية عليه أن يجابه تحديات عظمى، وأن يخوض حروبا ونضالات على جبهتين عريضتين: جبهة داخلية وأخرى خارجية. فالجبهة الداخلية، كما ألمحنا إلى ذلك، حبلى بالمشاكل المختلفة، وبشتى مخلفات الثقافة السائدة السقيمة التي تكلست، وصار بعضها عادات وتقاليد يصعب تغييرها. وإلى جانبها تروج ثقافة أخرى هدامة، يحملها أو يتبناها بعض من يسمّون أنفسهم بالمثقفين والحداثيين، وتتجلى في الدعوات المشبوهة إلى أمور قد تتعارض كليا مع قيمنا ومقوماتنا الحضارية، بل إن منها ما يطعن مباشرة في بعض المبادئ والتشريعات التي أقرها القرآن الكريم والسنة المشرفة. وغالبا ما تأتي هذه الدعوات تحت شعار—أو بالأصح تحت غطاء—الدفاع عن ما يدعى بالقيم الكونية، وحق الاختلاف وحقوق الإنسان.... وهكذا، وباسم هذه المسميات الخادعة، يُهاجم ديننا الحنيف وتُرفع أصوات تنادي بحرية المعتقد، وبضرورة تبني مبادئ الديمقراطية و العلمانية للخروج من أزمتنا الحضارية.  كما تُهاجم اللغة العربية، لغة القرآن الكريم، بذريعة حق إعطاء الأولوية للغات الأم، وترقية اللهجات مثل العامية والامازيغية. وهناك تحديات أخرى عديدة تعاني منها أمتنا الإسلامية، تتمثل في انتشار ظواهر مختلفة كالفقر، والبغاء، والعنف، والإقتتال، والتطبيع، والتنصير وما إلى ذلك من الأمور الشاذة التي يجب على  مشروع الثقافة البانية أن يضعها في الحسبان، وأن يجعلها من أولويات المسائل والأمراض التي عليه أن يعالجها، قبل الشروع  في تقديم  نفسه كبديل  حضاري عالمي. (أم بإمكان هذا المشروع أن يعمل على تحقيق الهدفين—الداخلي والخارجي—في الوقت نفسه؟)

أما على صعيد الجبهة الخارجية، فهناك تحديات من نوع آخر، ينبغي  أن يكون مشروع الثقافة البانية في  مستوى مواجهتها،  وفرض  نفسه بذكاء كحل للكثير من الأزمات والمعضلات التي تعاني منها  جل مجتمعات عالمنا المعاصر. إذ من المفروض، مثلا، أن يعرف هذا المشروع بداية كيف  ينفتح على الآخر، وكيف يبني علاقته معه في جو من الحوار المثمر، والتعارف  الحضاري الايجابي المرتكز على قوله تعالى: "يا  أيها الناس، إنا  خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا  وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم."[iii] ومن الضروري أن يتم هذا الانفتاح على ثقافة الآخر في حدود معقولة لا تؤدي إلى ذوبان شخصيتنا الحضارية. إذ بإمكاننا الإستفادة من تجارب وثقافات الشعوب الأخرى، لكن شريطة غربلة ما نأخذه لنستفيد مما هو إيجابي، وننبذ ما هو سلبي ومدمِّر؛ إذ من المعروف أن هناك نزعات فكرية وفلسفية منها ما هو مادي، ومنها ما هو وثني وغير ذلك، تتعارض كليا مع القيم الإسلامية، ولا تقود إلا إلى الشرك والإلحاد، من قبيل الفكرة الماركسية التي ترى بأن "الدين أفيون الشعوب،" على سبيل المثال. فكما يقول الفيلسوف الإسلامي  محمد إقبال، "على  المسلم المعاصر أن يحذر الوقوع  في الخطر  الذي يكمن فيما  ينطوي  عليه الفكر الاروبي الجديد من إلحاد، خصوصا وأن أساليب  الخداع فيه كثيرة ، فقد انخدع به  كثيرون من المسلمين ...، فعلينا أن نعيد النظر في فكرنا الإسلامي من جانب ونمحص هذا الفكر الجديد بروح مستقلة يقظة من جانب آخر...."[iv]

وبالمقابل، يمكننا أن نفيد ذلك الآخر من خلال طرح مسألة الثقافة البانية، وممارستها كبديل فكري وحضاري رباني يروم إشاعة الخير وخدمة الإنسان في كل مكان.  وينبغي في هذا المجال، أن تتظافر جهود المثقفين في عالمنا العربي والإسلامي، للعمل على محو الصور السلبية والنمطية التي راكمها عنا الآخرون، والبحث عن أنجع السبل والآليات الكفيلة بالتعريف السليم بقيمنا الخلقية، ورسالتنا الحضارية. إذ من الخطأ ومن غير المعقول أن نبقى سلبيين، ونركن إلى الإنغلاق والتقوقع حول ذواتنا في خضم كل التطورات المتسارعة الهائلة التي يشهدها العالم في مجال العلم والتكنولوجيا والإتصال؛ بل علينا أن نعرف كيف 'نقتحم' الميدان للأخذ بأسباب التقدم والترويج لثقافتنا ومقوماتنا الحضارية.[v]

إذن، في ضوء ما تقدم من أفكار، وفي إطار محاولة 'جمعية النبراس للثقافة والتنمية' لتفعيل وتحقيق شعارها المركزي "نحو ثقافة بانية ومجتمع مسؤول،" نقترح أن يهتم هذا الركن من المجلة الثقافية الإليكترونية للجمعية، بطرح ومناقشة جملة من المواضيع ذات الصلة بمشروعها الطموح. ورغم أن جل المواضيع المذكورة أسفله نوقشت، ولا زالت تناقش في العديد من الكتابات، والندوات، والملتقيات الثقافية، سواء على الصعيد المحلي أو الوطني أو العالمي، فإن بعض عناصر الجدة في طرحها الآن يمكن تلمسها من خلال معالجة الإشكالات المعروضة، والبحث عن الأجوبة من منظور قد يكون جديدا، ألا وهو منظور الثقافة البانية. وهذه نماذج من نوعية المواضيع التي يمكن من خلال التعمق والجدية في مناقشتها الإسهام في خدمة الثقافة البانية وتمكينها من التحقق داخليا وعالميا:

 -تعريف ونقد المفاهيم التالية:

-         'العالمية / الكونية

-         العولمة / (التنميط الفكري والثقافي بالخصوص)

-         العلمانية / (العلمانية في الخطاب العربي الإسلامي)

-         الحداثة /  (الحداثة في الخطاب العربي الإسلامي)

-         نقد فكرة 'القيم الكونية'

-         عالمية الإسلام / عالمية الثقافة البانية

-         نقد الخطابات الإستعمارية / الإستشراق

-         نقد الخطابات الما بعد إستعمارية /الإستغراب.

-         نقد المركزية الغربية / ثنائية الأنا والآخر.

-         نقد فكرة صراع الحضارات

-         ماذا عن حوار الحضارات/الثقافات/الأديان؟

-         'التعارفية': في النظرية والتطبيق[vi]

-         دور الترجمة / اللغات المختلفة في نشر وخدمة الثقافة البانية داخليا وخارجيا.

-         دور الأدب والفن (الإسلاميين)في نشر وخدمة الثقافة البانية داخليا وخارجيا.

-         دور وسائل الإتصال الحديثة في نشر وخدمة الثقافة البانية داخليا وخارجيا.


-                                                                                               حسن الأمراني، مجلة المشكاة، العدد 1، ص. 7. 1

2- طه جابر العلواني، 'الإسلام والتعايش السلمي مع الآخر'،  خطابات عربية وغربية في حوار الحضارات، دار السلام، القاهرة، 2004، ص.  

3- سورة الحجرات، الآية 13.

ورد في مقال 'المواجهة مع الفكر الغربي الوافد'، لأنور الجندي، مجلة الأمة، العدد 10، 1981 ص. 55. 4

5مصطفى الخلفي، في محاضرة بعنوان 'الإعلام وتحديات الهوية في ظل الثورة التكنولوجية،' ألقاها بمناسبة إفتتاح الموسم الثقافي 2014 لمركز الدراسات والبحوث الإنسانية والإجتماعية بوجدة ، 29نونبر 2013.

6 نظر فكرة وجيزة عن مفهوم 'التعارفية' في افتتاحية العدد الأخير (53) من مجلة المشكاة بقلم د. حسن

الأمراني,

 

 

 

 

 

قسم : العالمية و التعارف الحضاري - 22:21 19-1-2014 - المصدر : محمد الكوش

Share



أضف تعليقا

  قبل كتابة أي تعليق +

الإسم :


نص التعليق :