"نظرية الفجور السياسي " نموذجا
المثقف و السلطة في المغرب المعاصر
ذ: رشيد شريت
cherriet.presse@gmail.com
مقالات عديدة تناولت الراحل الدكتور فريد الأنصاري ،و إن كان معظم ما كتب عنه جاء مواكبة و تغطية وتعليقا على ما ألفه الراحل من كتب نقدية للعمل الحركي الإسلامي. خاصة كتاب الأخطاء الستة 2الذي أسال الكثير من المداد و ردود الأفعال. بيد أنني أعتبر أن هذا مجرد بروفيل فكري مرحلي للراحل، إذ أن هناك نسخا أخرى من فكر فريد الأنصاري لم يتم التركيز عليها :الأنصاري سياسيا؛ و الأنصاري ناقدا للعمل الحركي الإسلامي؛ و الأنصاري شاعرا و أديبا؛ ثم قبيل رحليه الأنصاري متذوقا ذوقا عرفانيا.
في هذا الدراسة، محاولة لتسليط الضوء على الحضور السياسي في فكر الأستاذ الأنصاري مستعينا بما خطه قلمه عبر مقالاته الصحفية و ما تضمنته كتبه. من دون أدنى تدخل أو توجيه للنصوص عن سياقها. و الحال و أنا أنقب في التراث السياسي و النقدي للراحل، وجدتني أمام نسختين من الدكتور فريد، فهناك فريد القديم: و هو فريد الأنصاري الحركي الذي شغل مناصب قيادية و تنفيذية في العمل الحركي الإسلامي1و كان من رواد فكرة توحيد عدد من الحركات العاملة في الحقل الإسلامي ضمن حركة التوحيد و الإصلاح3، ثم نسخة ثانية مغايرة تماما لفريد القديم، و هي نسخة فريد الجديد الذي ابتعد عن التنظيم الحركي و تفرغ لمجالس القرآن تدبرا و دعوة. و يا له من شبه بين تجربة فريد الأنصاري- غير المكتملة - و الشيخ بديع الزمان النورسي في نسختيه : سعيد القديم الذي قاوم مشروع التغريب الأتاتوركي من داخل مجلس المبعوثان 4،ثم سعيد ما بعد السياسية، سعيد رسائل النور، و مؤسس جماعة النور، هذه الرسائل التي أعادت مجرى الإيمان في تركيا بعدما كاد أن يقتلع الإيمان قلعا و تغرس بدله نبتة التغريب المطلق و الطمس التام للهوية الإسلامية بتركيا. و تشاء أقدار الله تعالى أن يموت فريد في أرض العم الأكبر سعيد النورسي، بل وبين أحظان تلامذته !5. بل والأعجب من ذلك أن السنة التي ولد فيها فريد 1960 هي السنة نفسها التي توفي فيها الشيخ سعيد النورسي!
و لقد جاء تركيزي على النسخة القديمة من الدكتور الأنصاري لأنها تمثل صورة الفقيه - العالم و نظرته للسلطة القائمة انطلاقا من موقع التجاذب بين الجانبين، على اعتبار أن كل واحد منها يعمل لمشروع له مساحة من الالتقاء و الاختلاف مع مشروع الآخر و نظرته. لكنها نظرة أيضا تسلط الضوء على التنافس الخفي بين الجانبين. و أعتبر أن نسخة الدكتور فريد القديم، فريد الفقيه المقاصدي الحركي، غير المحسوب أو المنتمي إلى الحقل الرسمي أي العلماء الرسميين، نموذجا لهذه الصورة. علما بأن تمام الصورة يكتمل عندما نتناول الدكتور فريد نفسه، و لكن هذه المرة من داخل المعمعان الرسمي!و إن كان الدكتور فريد الجديد لم يكمل التجربة بعد ، لأنه لم يعمر إلا أقل من أربع سنوات أو يزيد، أبدع فيها في النقد الذاتي للحركة الإسلامية التي كان هو أحد أعمدتها بيد أن الأجل لم يسعفه للتطرق لنظرة فريد الجديد للسلطة من موقع المشاركة.
الدكتور فريد الأنصاري العالم الفقيه والسياسي
كانت للراحل مواقف و رؤى سياسية واضحة عبر عنها في كتاباته و مقالاته العديدة. و إن كان الغالب عليها النمط الأدبي، فالأنصاري أديب قبل أن يكون فقيها أصوليا أو قياديا حركيا6. و قد بسط الراحل منظوره السياسي و وجهة نظره عبر مستويين اثنين:
الأول و هو الذي لا يعيره الكثيرون اهتماما: و هي نظرته للنسق السياسي المغربي؛ وخاصة علاقته بالعمل الحركي الإسلامي. ثم المستوى الثاني وهو تقييم الأنصاري لنظرة الحركة الإسلامية للعمل السياسي، أو ما أسماه بالتضخم السياسي. و إذا كان المستوى الثاني قد لاقى إقبال و اطلاعا معتبرا من شرائح شتى من مهتمين و عاملين في الحقل الإسلامي و متابعين له، و ذلك لأنها كانت عبارة عن قنبلة فكرية حملتها أحشاء كتبه النقدية اللاذعة. فإن المستوى الأول لم يحظ باهتمام بالغ لتناثره عبر مقالاته القديمة التي خطها و هو حاملا للعبء التنظيمي داخل الحركة الإسلامية. و هنا لا بد من الإشارة إلى ملاحظتين محوريتين :
الملاحظة الأولى : أن اعتمادنا على هذه الكتابات مرتبط أولا بلحظة الكتابة، أو ما يمكن أن نسميه بالكتابة التحقيبية، حيث كتبت في عهد الملك الراحل الحسن الثاني7 أي قبل الإعلان عن إعادة ترتيب المشهد الديني المغربي و هيكلته.ثانيا كان الدكتور الأنصاري حينها لم ينظم بصفة رسمية إلى المشهد الديني الرسمي بشغله لمنصبين هامين هما ، رئاسة المجس العلمي المحلي لمكناس8، ثم عضويته في المجلس العلمي الأعلى،ناهيك عن تأطيره للحلقات التكوينية الخاصة بتخريج جيل جديدي من الوعاظ و الخطباء و إعادة تأهيلهم. وهذا كله لا يعني أنه بالضرورة قد غير من تقييمه الاستراتيجي للوضع العام بالمغرب، و طريقة تدبير الشأن الديني و خاصة العلاقة مع الحركات الإسلامية،لأن التغييرات طالت فقط المشهد الدينين الرسمي.
الملاحظة الثانية : عدم تناول الدكتور الأنصاري لكتابات تقيم الوضع السياسي المغربي في عهده الحالي. و نأيه عن ذلك بالمطلق ! حيث تناولت كتبه و مقالاته عقب اعتزاله العمل السياسي الحركي، الجوانب التقييمية للحركة الإسلامية، و خاصة النقدية منها. و كذا دعوته إلى الرسالية القرآنية، ما يجعلنا نستنتج بأن ما كتبه سابقا عن الوضع الرسمي و تقييمه للحراك السياسي قد يبقى ساري المفعول، أو على الأقل لا يمكن إلغاؤه جملة و تفصيلا.
نظرية الفجور السياسي
عبر الدكتور الأنصاري عن نظرته للنسق السياسي المغربي و للطبقة النافذة سياسيا و ثقافيا و اقتصاديا الماسكة بزمام الأمور، عبر سلسلة من الحلقات الأسبوعية نشرت في بداية سنة 1999، أي قبيل وفاة الملك الحسن الثاني، من على صفحات أسبوعية التجديد لسان حركة التوحيد و الإصلاح.
في سلسلة من المقلات حملت اسم: الفجور السياسي9.
و في تشخيصه للحالة السياسية المغربية، يرى بأنها-أي نظرية الفجور السياسي - وضعية إيديولوجية10 لحماية الوضع الفاسد و ضمان استمراره و اتساع رقعته و تعميق جذوره في المجتمع حتى تتمكن من ضمان مصالحها و العمل على قلب الموازين و قتل الحاسة النقدية في المجتمع. و هكذا يبدو الفرق بين الفجور الطبيعي و الفجور السياسي: فالأول استجابة للرغبة الذاتية الحيوانية للفساد و بصورة مستهترة و انجراف قوي لدعي الهوى، أما الثاني أي الفجور السياسي فهو فلسفة للفجور بممارسة ثقافة و أخلاقا أولا، و مدافعته جبهة الصلاح ثانيا من خلال ترسيخ فلسفة الانحلال في المجتمع و تشويه السلوك الصالح السليم وذلك باستغلال طاقة الفجور الطبيعي في النفس الإنسانية و دعوتها إلى التحدي 11؟
الفجور سياسي كاستراتيجة لمكافحة المد الإسلامي
و لكن من يقف محركا للظاهرة ؟ و لصالح من ؟
يجيب الدكتور الأنصاري بأن هناك طرفين اثنين يقفان وراء الظاهرة و يختلفان باختلاف الموقع و التوازنات السياسية:
الطبقة العلمانية الفرونكفونية النافذة، ثم النظام السياسي الرسمي.12
موضحا بأن الفجور السياسي قد اتخذ صورة خاصة، و هي التمكين للفساد الخلقي13 و الدعاية له بوسائل شتى، و متخندقا في جبهة واحدة رغم تعدد أصنافه و اتجاهاته، لتحقيق أهداف مهما بدت متعددة إلا أنها تؤول في النهاية إلى مآل واحد و هدف وحيد، ألا و هو محاصرة الصحوة الإسلامية باعتبارها توجها سياسيا، أو ذات بعد سياسي...فالحركة الإسلامية بطبعها لا يمكن أن تنتعش في مجتمع فاجر مستهتر بالقيم غارق في شهواته إلى درجة أنه لا يستسيغ الخطاب الخلقي و لا أذن له لسماعه. إن عمل الحركة الإسلامية في مجتمع كهذا يعني الفشل الذريع. فلا بد أولا من قابلية للاستماع قبل الاستجابة. و من هنا كان إغراق المجتمع في الفساد الخلقي بشتى أنواعه هدفا استراتيجيا لكل القوى المعادية للمد الإسلامي، لأن الوصول بالرأي العام إلى مستوى الرفض الاختيار لكل ما هو نظيف يعني نجاح تلقيح المجتمع ضد الصلاح، و هو في النهاية مؤشر على انحصار الحركة الإسلامية في دائرة ضيقة جدا لن تتجاوزها أبدا.
و قد رأينا الاستراتيجة مطبقة في بعض البلاد الإسلامية عربية و غير عربية تحت ما اشتهر باسم : "سياسية تجفيف منابع التطرف الديني". و الحقيقة أن الذي تجفف منابعه هو التدين نفسه لا التطرف. و إذا كانت بعض البلاد العربية و الإسلامية قد اختارت الأسلوب الدموي المتخلف لقمع حركة التدين في المجتمع، أو أسلوب القانون العسكري. فإن بعضها قد اختار الأسلوب السوسيو سياسي-الاجتماعي السياسي -للقضاء على حركة الوعي الإسلامي. و لعلع هذا الأسلوب الأخير أخطرها جميعا و أكثرها فعالية في بلوغ هدفه بأقل الخسائر. و المغرب واحد من البلاد الإسلامية التي قامت سياسته الرسمية على هذا المنهج 14! بل لعلها من الرواد في هذا المجال، لاعتماده على هذا الخيار السياسي بشكل يكاد يكون أحاديا ، و المراهنة عليه وحده تقريبا بصورة واضحة و علنية.و يزيد هذا الهامش خطورة
عندما يسمح بهامش ضئيل من التدين المشوه للناس...و حينما يستقرئ الدارس سائر التعليلات الرسمية المطمأنة بأن المغرب لن يعرف ظاهرة التطرف الديني، يجد أنها كلها ترجع إلى أمرين اثنين :
الأول : التذكير بهامش التدين المسموح به في المجتمع. و هو هامش شعاري أكثر منه ممارسة، و أغلب المُمارَس منه يصنف في إطار التدين المنحرف، من طرقية و عقائد خرافية لا علاقة لها بالدين، و من هنا التشجيع الرسمي لمواسم الأضرحة، و الطرق البدعية المبنية على الدجل و الشعوذة. 15
الثاني : أن هذه الرغبة في تدنيس المجتمع ، هي غاية سياسية متعددة لعدة جهات في المغرب، منها ما رسمي و منه ما هو حزبي أو حتى ثقافي. فمهما اختلفت هذه الجهات أو تعارضت مصالحها الجزئية، فإنها تؤول في النهاية إلى مآل واحد.
لقد كانت الإيديولوجية الماركسية بشتى صورها العدو الأول للدين و التدين في المجتمعات الإسلامية. و كانت الأحزاب تقود حملة الفجور السياسي، لكن تغير الأوضاع الدولية و تحول العالم إلى الأحادية القطبية، و الهيمنة الليبرالية الأمريكية، تحولت المواجهة إلى المجال الثقافي الحضاري في المواجهة.16
مظاهر الفــجور السيـــــاسي
يقرر الأستاذ الأنصاري سلفا بأنه يصعب تحديد مظاهر الفجور السياسي بشكل دقيق، بيد أنه يضرب أمثلة و يطرح نماذج من كل صنف مكتفيا باستقراء لجزئياتها، ليخلص إلى دليل قطعي يدين فيه الواقع السياسي الرسمي والحزبي:
1- المستوى التعليمي
لعل أهم ما يمكن رصده في المجالين التعليمي و الثقافي، هو السيطرة الفرونكفونية على الو ضع مطلقا! 17فالتعليم لم يستطع أن يتخلص من عقدة الفرنسية. إن مناهج التعليم المزدوجة هذه، هي التي خلقت لنا طبقة المثقفين المنحرفين و الأدباء الإباحيين. فلا تقرأ في المغرب من الشعر و الرواية إما يمجد السقوط و يكشف العورات....أما العالمية فهي بين أحد أمرين، إما أن تكتب بالفرنسية، و إما أن يقيض الله لك من يترجم لك إلى الفرنسية على مقدار ما كشفت من مخبوء.
إن الأدب الفرنسي الذي يكتبه مغاربة، أدب خائن، بالمعنى الوطني و الحضاري للكلمة إنه يكشف لهم عوراتنا! أو كأحسن الأحوال يقدمنا لهم كمادة سياحية غرائبية مسلية ! لإرضاء شهوة الفرنسي المستعلية.
إن المثقف المغربي المفرنس يعاني من وطء الكلمات الفرنسية العارية التي تدعوه إلى ربط كل شيء في الحياة بالجنس ! و إنه لا يستطيع التخلص من ذلك لو أخلص النية إلا بعد مكابدة و عذاب شديدين.
هؤلاء إذن هم طبقة الفرونكفونيين ببلادنا حصار طبيعي للتدين و المتدينين يحمون فريقهم من الانفلات إلى صف الطهر..صحيح أن هناك مثقفين لا علاقة لهم بالفرونكفونية يتسابقون نحو هاوية الفجور، أزعم أنهم مشمولون بالظلال الفرنسية النتنة. إن المشكل الثقافي الأول بالمغرب إنما يكمن في هذا الانبطاح المخزي لكل ما هو فرنسي !و ها هي ذي الجهات الرسمية ما تزال تحرص ما تكون على تمجيد المنتوج الثقافي الفرونكفوني18
2- المستوى الإعلامي
فقد قطع أشواطا بعيدة في الجرأة على كشف العورات و عرض المحرمات. و لقد صارت مشاهدة التلفزيون المغربي بقناتيه في وسط العائلة من المحرجات و المخزيات. و بغض النظر عما ترسخه الصورة العارية و الكلمة العارية في النفس من انحراف داخل الأسرة المغربية المستسلمة للمخدر الإعلامي. فإن الخطر الأكبر يكمن في خرم مفاهيم الحياء و الكرامة و الأعراض..و ذلك هو الطريق المعبد لضياع مفهوم الأسرة.19
المستوى الفني 3-
و هو لاحق بالمستوى التعليمي و الإعلامي لما للفن من ارتباط بوسائل الإعلام المرئية، و ما تلعبه هذه من دور في إشهارها ولولاه لما كان له أثر يذكر في المجتمع. و نخص بالذكر هاهنا ثلاثة أصناف: الفيلم ،و المسرحية، و الأغنية، ذلك أن الفساد الذي طرأ على هذه الأصناف لم يطرأ على أي صنف من أصناف الفنون.20
أ- السينما
إن السينما قد تطورت من حيث الإنتاج و الاستهلاك معا.سواء ما عرض منها في دور السينما أو ما يعرض على جهاز التلفزيون، و تطورها بالطبع نحو الأسوأ.و أذكر أن دور السينما بالمغرب كانت تتداول أصنافا ثلاثة من الأفلام : الفيلم الأمريكي الرعوي الكوبوي وهو استعراض القوة على الطريقة الأمريكية قبل ظهور أفلام رامبو، ثم الفيلم الهندي القصصي، و أخيرا أفلام الكاراطي و فنون القتال الرياضي..ثم قاعات قليلة و لكنها موجودة تكاد تكون متخصصة في عرض أفلام الجنس، و لكنها تفعل ذلك في تستر و استحياء ...ثم جاء عهد التسعينات فصارت أغلب دور السينما إن لم نقل جميعها متخصصة في عرض أفلام الجنس و الخلاعة. هذا في بلد فيه شيء اسمه المركز السينمائي المغربي يفترض فيه أنه يشرف على ما يعرض على أبناء المسلمين...21
ب- المسرحية و الأغنية
أما المسرحية؛ و خاصة ما تعرضه التلفزة المغربية فهو في غالبه ساقط من الناحية الفنية المحضة نصا و إخراجا! و أما الأغنية فقد هبطت إلى الدرك الأسفل من كل ذلك! و ذلك من ناحيتين: الأولى ليس فساد المضمون فحسب و لكن انعدامه! إن ما تنتجه الحناجر المغربية اليوم هو في غالبه ضرب من الهستريا....يمكن أن نطلق عليه اللامعنى، و اللامعنى هذا مفهوم سياسي بالدرجة الأولى! إنه الرغبة السياسية في صناعة جيل لا معنى له، جيل لا يفهم شيئا و لا يسأل عن شيء. و إن المعنى مهما فسد فيمكن أن يتحسن يوما ما ! أما اللامعنى فهو العبث أو الموت الذي لا حياة بعده!
4-المستوى الاجتماعي
يحدد الدكتور الأنصاري مجال تناوله للمجال الاجتماعي في ثلاثة عناصر هي :المرأة و الأسرة و الشارع.
: أ- المرأة
هي المحور الأول و الأساس الذي يقوم عليه المحور التفسيقي السياسي بكل اتجاهاته22! و في هذه القضية بالضبط تلتقي هذه الاتجاهات كلها مع المشروع الصهيوني.
إن ما سمي مغالطة بحرية المرأة، لم يكن القصد منه كما تدل على ذلك دلائل الواقع الممارس عند هؤلاء، و كذا تنظيراتهم و تصريحاتهم إلا اعتقال المرأة في حدود جسدها ! إن المرأة في النظرية الليبرالية ليست إلا متعة مطلقة من أي قيد إنها مشاع جنسي.
و أحسب أن الشيوعية لم تلتق مع الرأسمالية كنظرية اجتماعية كما التقت معها في قضية المرأة.
و إنها بعد ذلك لأداة و أي أداة لتفسيق المجتمع، و لقد أجمع عليها المثقفون المنظرون و السياسية الممارسون. حتى إن قياس التطرف الديني في بلد ما، صار يقاس بمدى حرية المرأة في ذلك البلد! و ما تصريحات مسؤولينا عنا ببعيد.23
ب- الأسرة
و يكفي أن أشير-الكلام دائما للأستاذ الأنصاري- إلى أن الأسرة هي المحضن الوحيد للتدين عندما تفسد كل المحاضن الاجتماعية. إن الأسرة هي المقر الأمين لاستمرار التدين في الناس و من هنا كان هدمها هدم آخر معاقل الدين في المجتمع.
فانظر أي خطر تحتوي عليه دعوى تغيير مدونة الأحوال الشخصية 24.إن المسألة ليست في الطلاق بيد من يكون؟ ولا في النفقة كيف يجب أن تفرض؟ ولا فيفي القوامة متى تبدأ و متى تنتهي ؟ و لا في العدل بين الزوجين، كيف يطبقّ كل ذلك؟ إنما هو أعراض للقضية و ليس جوهرا فيها، لأن الاجتهاد الشرعي قمين بمراجعة كل ذلك. إن الجبهة العلمانية إذ ترفع شعارات مثل هذه و أكثر، إنما تعمل على هدم المحضن الوحيد الأكثر فعالية و الأكثر دفئا و أمنا للتدين في المجتمع إن الأسرة إذن هي حصن الحركة الإسلامية الممتاز، الذي إن انهدم فلا انتظار بعده.25
ت- الشارع
و هو في الحقيقة إفراز الفساد فيما سبق من عناصر تعليمية؛ و ثقافية؛ و فنية؛ و إعلانية؛ و اجتماعية. إنه صالة العرض الدائمة لكل ما ذكر و غيره! و لذلك فإن إشاعة الفاحشة فيه مقصد سياسي لتكريس منتجات الفجور المؤسسي. من ناحية، و لتعويد العين الاجتماعية على مظاهره المقرفة حتى يصبح من المألوف اليومي، فلا تستنكر بعد ذلك فعليا ثم شعوريا و هو معنى التطبيع النفسي مع المنكر.
إن الناظر في كبريات مظاهر المنكر في الشارع كمفهوم اجتماعي، يجدها منحصرة في لأمور التالية و ما سواها يمكن رده إليها و هي : الموضة؛ و الخدنية؛ و اللغة؛ و الخمارة؛ و النوادي الليلية.26
خلاصــــــات
و يخلص الأستاذ الأنصاري بعد تحليله لظاهرة الفجور السياسي و تمظهراتها، إلى أن ما سبق يؤكد حقيقة التي قدمناه على أنها وقائع استقرائية قطعية واقعية27، ألا و هي الطبيعة السياسية للفجور المسلط على هذه الأمة ، و أن القصد منه هو قتل الحاسة النقد في الوجدان الديني الشعبي أي القضاء على أصل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، سواء من الرغبة في القيام به، أو من حيث إمكان الاستجابة له ! و ذلك هو الحصار الأخطر للحركة الإسلامية، و التقزيم القاتل للتدين في البلاد.إن بعض الملاحظين يرون بأن سياسة التفسيق السياسي إنما المراد بها المحافظة على التوازن السوسيوسياسي في البلاد، لكني أرى أن النتيجة و لو سلمنا جدلا بهذا الرأي لن تكون إلا في اتجاهين:
الأول: أن غلبة الفجور على الوضع إلى درجة تهدد حتى ذلك الحد الأدنى من التدين المرغوب فيه سياسيا، لسبب بسيط هو أن طبيعة المنكر متعدية، أي أن القضاء على حاسة النقد في الناس ستؤدي بهم في نهاية المطاف إلى الاستسلام أجلا أو عاجلا للمنكر استئناسا و ممارسة.28
الثاني : هو نشأة التطرف الحقيقي في فهم الدين و ممارسته، لأن الفجور السياسي، يفهم على أنه استفزاز مقصود للفئات المتدينة من الناس، مما يؤدي بصورة لاشعورية إلى تصعيد حرارة التدين و الحماس له رغبة منها في الدفاع الذاتي.29
لذلك كله، فإننا نقرر بأن الفجور السياسي ليس إلا وسيلة للإفساد بكل المقاييس الدينية و البرجماتية. أعني أنه ليس ضررا على الحركة الإسلامية فحسب، بل هو ضرر أكيد حتى على المناهضين لها بما يؤول إليه من فوضى في النظم الحياتية، و تفكك في البنى الاجتماعية، و ردود أفعال عشوائية لا يمكن التنبؤ بمآلاتها، و لا التحكم في نتائجها ؟ 30
ملاحظات حول نظرية الفجور السياسي
بعد أن عرضنا لنظرية الفجور السياسي كما هي، و من دون أدنى تدخل منا ، لا بد من إبداء بعض الملاحظات العامة على النظرية:
- هذه العينة القليلة و النادرة من كتابات الرجل تظهر و بالملموس بأن الأنصاري، له وجهة نظر سياسية ثاقبة. و يكفي أنه أشار حينئذ بأن الوضعية مؤهلة لزحف التطرف و الإرهاب. و هو الشيء الذي حدث بالفعل و يكفي أحداث16 ماي 2003 بالدار البيضاء و ما تلاها للتدليل على ذلك …
- تشابك خيوط الفعل السياسي، و لا أدل على ذلك أن الأنصاري و هو يطرح نظرته السياسية ، تفرع في الشرح و الخوض في حقول أخرى غير سياسية كالحقل الاجتماعي و الاقتصادي و الفني ....مما يعني أن الإشكال بالأساس بين النظام الرسمي العربي و الفاعل الإسلامي الحركي، ليس إشكالا سياسيا حول مسألة التداول على السلطة و بسط الحريات و سيادة القانون. و لكنه في حقيقته إشكال مجتمعي و تدافع بين مشروعين مجتمعيين أو أكثر. فقط طغى الجانب السياسي لما له من أهمية و نفوذ مهيمن على خارطة الصراع و التدافع بين الجانبين، حيث يبدو للوهلة الأولى بأن مشاكل الإسلاميين هي مشاكل سياسية، و بأنهم مجرد فرقاء سياسيين، و الحال أن الأمر غير ذلك.
- ثم إن الأنصاري القيادي الإسلامي الذي أزعم أنه لم يكن معروفا من لدن الكثير من خارج الحقل الإسلامي. قد أثبت بأن مشكلة الإسلاميين ليس في كونهم لا يملكون برنامجا سياسيا بقدر ما هي مشكلة الإقصاء من الساحة السياسية، و عليه يصعب عليهم نشر رآهم وبرامجهم. و هو الشيء الذي يحيلنا إلى أن المعركة السياسية القادمة في الوطن العربي. إذ من المتوقع أن يكون للإسلاميين فيها دور معتبر. إما لأنهم سيشكلون المعارضة السياسية للأنظمة القائمة، أو لأنهم سيملئون الفراغ السياسي الكبير الذي تعرفه على الساحة.
- ما تزال علاقة السلطة بالفقيه و العالم المنتمي إلى الفضاء غير الرسمي محل أخذ و رد و تنافس و تجاذب. لأن هذا الأخير ما يزال يمثل تهديدا أو بدرجة أقل، منافسا سياسيا للسلطة نتيجة تواجده الشعبي و أنصاره و شعبيته الشيء الذي من شأنه أن يزعج السلطة، خاصة عندما تتعلق الأمور بالفتوى الشرعية التي في كثير من الأحيان قد لا تخدم السياسة القائمة أو مسببة لها علاقة ارتباك حقيقة. و لن نعدم الأدلة و الأمثلة المعاصرة لنكتفي، بمشروع خطة إدماج المرأة في التنمية، و التي قدمت في عهد الحكومة الاتحادية_ و كان لها الفضل في إسقاطها _ يعود إلى المنابر التي عبأت غضبا شعبيا معتبرا رافضا للخطة، و الأمثلة كثيرة ....
-------------------------------------------------------------------------------
مراجع الدراسة
ثم نشر هذه الدراسة في مجلتي البيان اللندنية و وجهة نظر المغربية.
1- ألف الدكتور فريد الأنصاري عددا معتبرا من الكتب تنوعت في مواضيعها :بين التحليلي النقدي للعمل الإسلامي و الدعوي التربوي.و كذا الإبداع الشعري .نذكر منها
- التوحيد و الوساطة في التربية الدعوية.
- أبجديات البحث في العلوم الشرعية.
-سيماء المرأة في الإسلام بين النفس و الصورة.
- قناديل الصلاة : مشاهدات في منازل الصلاة
- الأخطاء الستة للحركة الإسلامية بالمغرب .
- جمالية الدين :معارج القلب إلى حياة الروح.
- مفهوم العالمية : من الكتاب إلى الربانية .
- الفطرية: بعثة التجديد المقبلة من الحركة الإسلامية إلى دعوة الإسلام.-
-البيان الدعوي: مظاهر التضخم السياسي.
- بلاغ الرسالة لقرآنية : من أجل إبصار لآيات الطريق.
Les secrets du Hidjab-
Autour du CORAN-
2- شغل الدكتور فريد مناصب قيادية تنظيمية و كان آخرها عضويته للمكتب التنفيذي لحركة التوحيد و الإصلاح و إشرافه على القطاع الطلابي للحركة ثم فيما بعد إشرافه على البرنامج التربوي للحركة .
3- تم في أغسطس/آب 1996 الإعلان عن ميلاد حركة التوحيد والإصلاح .بعد عملية توحيد بين كل من حركة الإصلاح و التجديد و رابطة المستقبل الإسلامي التي رأت النور بدورها سنة 1994بقيادة د. أحمد الريسوني، بعد عملية توحيد أخرى لثلاثة مكونات هي
الجمعية الإسلامية بمدينة القصر الكبير سنة التأسيس 1976 د. أحمد الريسوني مؤسسا.-
- وجمعية جماعة الدعوة بمدينة فاس التي تأسست سنة 1976،د الشاهد البوشيخي مؤسسا
- وجمعية الشروق الإسلامية سنة التأسيس 1986، ومجموعة التوحيد،ثلة من قدامى الشبيبة الإسلامية.
4- تسمية البرلمان التركي.
5 – كان للدكتور الأنصاري اهتمام خاص ببديع الزمان النورسي ،حيث وضع عن حياته روايته الأخيرة. كما أنجز عدة دراسات عن مدرسة النور، و معجما لرسائل النور ،وقد تكفلت جماعة النور بعلاج و رعاية الأستاذ فريد الأنصاري حتى توفته المنية يوم 05 نوفمبر 2009 بمصحة الشفاء بإستانبول.
6- يغلب الطابع الأدبي على كتاباته السياسية التحليلية.أكثر من ذلك تحدث بعض أقرب أصدقاء الأنصاري بأنه كان يمارس الفن التشكيلي!
7-اعتمادنا على كتابات سنة 1999 قبل أي وفاة الملك الحسن الثاني.للتأريخ للحظة التي صيغت بها أفكار الأستاذ الأنصاري.
8-شغل الأنصاري مناصب رسمية ففضلا عن كونه أستاذ بجامعة المولى إسماعيل بمكناس .شغل سنة 2006 منصب رئيس المجلس العلمي لجهة مكناس تافيلالت. ثم عضويته في المجلس العلمي الأعلى.أعلى هيئة دينية رسمية بالمغرب.
9- نشرت نظرية الفجور السياسي على صفحات أسبوعية التجديد لسان حركة التوحيد و الإصلاح ،في ست حلقات ضمن نصف صفحة خصصت للراحل فريد معنونة فقه الدعوة : التدين أولا .و قد نشرت أول حلقة في العدد 11 ص 20بتاريخ 07 أبريل 1999.و كانت آخر حلقة في العدد19 ص 13 بتاريخ 02 يونيو 1999.و قد صدرت بعد الحلقات في كتيب ضمن سلسلة اخترت لكم.اعتمدنا على المقلات لأنه تؤرخ للحظة الكتابة .
10- الفجور السياسي خيار الجبهة العلمانية/الفرونكفونية بالمغرب –التجديد عدد 11 ص 15 بتاريخ 07 أبريل 1999
11- م ن
12- - اختلفت حدة الأنصاري في الإشارة المباشرة إلى دور النظام المغربي و تحمليه أنه هو من يقف خلف الظاهرة.و لكنه اعتبرأن التيار الفرو نكو-عالماني وهو أحد اللوبيات الضاغطة النافذة في الحكم ،هي الجبهة الأولى المعادية للإسلاميين.بينما يمكن اعتبار أن النظام الرسمي يسعى إلى ضبط التوازنات السياسية بتغليب طرف على طرف حسب الظرفية.ثم من أجل الحد من المد الإسلامي على عكس سياسية تجفيف المنابع التي نهجها بعض الدول العربية كتونس و سوريا.
13- الفجور السياسي كاستراتيجيا لمكافحة المد الإسلامي –التجديد عدد 14ص14 بتاريخ28 أبريل 1999
14-م ن
15- كان في الماضي أما الآن فقد تضاعف الدعم الر سمي للمواسم بشكل كبير ..
16- م ن
17- مظاهر الفجور السياسي بالمغرب – التجديد ع15-ص 17 بتاريخ 5 ماي 1999
18 - م ن
19- م ن
20- مظاهر الفجور السياسي بالمغرب – التجديد عدد 16ص13 بتاريخ 12 ماي 1999
21- م ن
22- لأهمية خصص الدكتور الأنصاري لهذا الموضوع كتبا مستقلا عنون له ب : سيماء المرأة في الإسلام بين النفس و الصورة .
23- م ن
24- كان هذا قبل إقرار قانون مدونة الأسرة سنة 2004.و التي صادق عليها البرلماني المغربي في فبراير 2006
25- مظاهر الفجور السياسي بالمغرب –التجديد عدد 18ص15 بتاريخ 26 ماي 1999
26- م ن
27- مظاهر الفجور السياسي بالمغرب –التجديد عدد 19ص13بتاريخ 02 يونيو 1999
28-م ن
29- م ن
30- م ن