عمر أجة
tajmout11@gmail.com
المراد بالخطاب الثقافي الإسلامي، هو كل بيان باسم الإسلام يوجه للناس سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين لتعريفهم بالإسلام، وقد يأخذ هذا الخطاب شكل الخطبة والمحاضرة والرسالة والمقال والكتاب والمسرحية والأعمال الدرامية... أما التغيير أو التجديد فقد اكتسب شرعيته من وروده في حديث نبوي، قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) أخرجه أبو داود والحاكم وصححه، فذكر النبي صلى الله عليه وسلم تجديد الدين نفسه، والخطاب الثقافي الديني جزء من هذا الدين وتجديده. ومع ذلك شهد هذا المصطلح عبر تاريخه التباسا واشتباها أيضا، نتيجة التنازع خول شرعية مدلوله، وهو وإن كان في التراث الإسلامي كاد أن يطابق مفهوم "الاجتهاد" بالمعنى الفقهي، فإنه بدء من بدايات القرن العشرين تحوّل من النص إلى الخطاب، واكتسب زخمه بعد خفوت وهج مدرسة الإصلاح التي نسبت لمحمد عبده رحمه الله والتي قامت على أساس الوعي بالعصر، وبالفجوة الماثلة بين الغرب والعالم الإسلامي، وكانت فكرة مناهضة الاستعمار الأوربي والهيمنة الثقافية تقع في القلب من انشغالاتها. ومع ذلك بقي مشروع التجديد قاصرا على فئات نخبوية ولم يتحوّل إلى عمل مؤسسي واسع، فضلا عن حديث الصحافة.. وحول مفهوم تغيير الخطاب أو تجديد الخطاب الثقافي لا بد من طرح بعض الأسئلة التي تنور الطريق منها:
- هل الخطاب الثقافي الديني بمفهومه العام السابق يتغير في عصر العولمة عن أي عصر آخر؟ وهل يتغير من قوم إلى قوم؟ ومن مكان إلى مكان آخر؟
وللإجابة على هذه الأسئلة أقول: إن الدين له ثوابت لا مساس بها، ولكن تتغير في أسلوب عرضها، ومن هنا فعرض الثوابت في الخطاب الديني يختلف من زمن لزمن آخر، ومن بيئة لأخرى، ومن قوم لغيرهم، كما يتضمن الدين متغيرات تقبل التجديد والاجتهاد. وانطلاقًا من هذه الطبيعة للدين فإن فكرة التجديد الثقافي ليست مرفوضة إسلاميًّا؛ فالقرآن الكريم قد غيّر من أسلوب خطابه الديني من مكان لمكان ومن وقت لوقت، ودلل على ذلك بالاستشهاد باختلاف الخطاب الديني في الموضوعات والأسلوب ما بين القرآن المكي والقرآن المدني. فمثلاً نجد أن القرآن المدني لم يعتمد على أسلوب الزجر، ولم ترد به كلمة كلا، وهذا يدل على أن الخطاب يتغير، وقد قال تعالى: "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه"، واللسان هنا كما ذهب كثير من العلماء لا يعني اللغة، وإنما يعني اختلاف الخطاب الموجه لعامة الناس عن خاصتهم. ولا بد أن يُبنى هذا الخطاب على فهم دقيق لطريق المخاطبين وعقلياتهم وبيئاتهم، وقد قال علي بن أبي طالب –رضي الله عنه-: "حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما لا يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله"، وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه: "ما أنت حدثت قومًا بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة". كما أن هناك قاعدة فقهية تقول: "الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعرف والحال والنية"، ومن هنا فالثقافة وخطابها أكثر قابلية للتغير من الفتوى.
وبعد بيان إمكانية تجديد الخطاب الثقافي نتساءل: من الذي يقوم على تغيير أو تجديد خطابنا وثقافتنا ؟
لا شك أننا علينا -نحن المسلمين- أن نغير خطابنا بأنفسنا ومن منطلقاتنا، ولا يجوز أن يُملى علينا هذا التغيير بأوامر تأتينا من الغرب؛ لأننا بذلك سنخضع لأهوائهم. إن الإسلام الذي يربي الشخصية القوية المدافعة عن الدين والوطن هو مرفوض عند الغرب، ويجب تغييره وهذا ما ساعدت عليه بعض الأنظمة الحاكمة باتباعها لسياسة (تجفيف الينابيع)، أي تجفيف ينابيع التدين الإيجابي في التعليم والإعلام والثقافة والأنظمة التربوية حتى يظهر لنا إسلام الخرافة والموالد، فإذا كان معنى تجديد الخطاب هو تغيير الإسلام كما تريد كثير من الجهات، وخاصة بعد أحداث 11 شتنبر فإن المجتمع المسلم يرفض هذا التغيير. إن الرؤية الصحيحة والسليمة لمنهج التجديد يتمثل في: أن تجديد الخطاب أو الثقافة هو العودة بالإسلام إلى منهج التربية النبوية والوسطية والسمو الروحي استجابة لنداء الله عز وجل؛ فالعودة بالإسلام إلى عهده الماضي لا تعني الجمود والركود، ولكن تعني الانطلاقة الجديدة للرؤية السليمة؛ فقد كان الإسلام أوسع ما يكون وأكثر تيسيرًا في عهد النبوة والصحابة رضوان الله عليهم. ولا بد أن ينطلق هذا المنهج من منبعه الأصلي الذي رسمه القرآن الكريم وهو الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن ندرك أن قوله تعالى: (ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة) ليس قاصرًا على الرسول صلى الله عليه وسلم وحده، ولكن دعوة لأمة المسلمين جميعًا أن تتحمل عبء الدعوة وأن تسعى إلى تغيير خطابها وثقافتها وتجديدهما، فكل مسلم داعية، وعليه أن يجدد ثقافته مرتكزًا على منهاج الحكمة التي تخاطب العقول وتقنعهم بالدليل العلمي والموعظة الحسنة التي تستميل العواطف وتحرك القلوب، وأن يعتمد أسلوب المثقف على انتقاء الأساليب الطيبة. ومفهوم تجديد الثقافة يتنازعه طرفان:
الأول: فئة تتحدث عن تجديد الثقافة الدينية وهي تصدر من منطلقات غير دينية، وأعتقد أنه لا يمكن تجديد الخطاب الثقافي من خارج هذا الخطاب نفسه سواء بظروف محلية أو عالمية.
الثاني: بعض القوى الإسلامية الخائفة التي اشتد بها الخوف فإذا سمعت مثل هذا اللفظ "تجديد" ترامى إلى أذهانها أنها مؤامرة لتحريف الدين أو لتغيير الخطاب. إن هذا التجديد الحي قراءة واعية، واعدة للنفس والآخر والواقع، وتدبر أمثل للنصوص، و قراءة قادرة على إيجاد الحلول الشرعية المناسبة لمشكلات الواقع. إن هذا التجديد يجب أن يكون بأيدي رجالات الثقافة البانية، وعن طريق المتخصصين المسلمين، ولا أقول بالضرورة : الفقهاء، وإنما المتخصصون على العموم، ويجب أن تكون أدوات هذا التجديد ووسائله داخلية تلمس مشاعره وتتحدث من داخل إطاره، وعلينا أن نتفق على الضرورات والقواعد الشرعية والمحكمات الدينية الثابتة، كما يسميها ابن تيمية (الدين الجامع). ومن هنا الدعوة إلى الاعتصام بسعة الشريعة وبحبوحتها لتجديد الثقافة الإسلامية وتيسيرها، يقول تعالى: "وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ". إن التجديد في جوهره هو عبارة عن تجسيد الوعي، بضرورة صنع الحاضر، وفقا للاختيارات الفكرية الكبرى، والمجدد الفذ، هو الذي يتمكن من تحقيق مقولات الوعي والتجديد الثقافي في الواقع الخارجي. وإن الأرض الخصبة، التي تؤهل المجدد الثقافي، لعمليات الإنتاج المبدع، هي التي تتشكل من جراء التفاعل الخلاق والرشيد بين المجدد أو المثقف أو المفكر والواقع، لا لكي يخضع المثقف أو المفكر مقاييسه ومعاييره المعرفية إلى الواقع، وإنما لكي يكون إنتاج المثقف ذا جدوى وفائدة عملية على صعيد الواقع. لأن ابتعاد المثقف القادر على التجديد الثقافي عن عصره وواقعه يؤدي إلى تكثيف العناصر الكابحة في ذهن المفكر وواقعه، المانعة لعمليات التجديد والإبداع. ولذلك فإن شرط الانبعاث الحضاري والانطلاقة الشاملة، هو التغيير الثقافي. ولكي تمارس الثقافة البانية دورها المأمول في هذا الإطار، نحن بحاجة إلى التجديد الثقافي والفكري الذي يزيل عن عقولنا ونفوسنا كل رواسب التخلف، التي تمنع تفاعلنا الخلاق مع تلك الأصول.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل