محمد علي الرباوي
وأنا أتأمّلُ هذا الموضوعَ، ومواضيعَ مُماثلةً، تأكد لي أن الحضارةَ الغربيةَ لا تقدم للمرء معارفَ يقينيةً؛ وذلك لكونِها حضارةً أسلمتْ زمامَ أمرِها إلى الفلسفة؛ فكلُّ سؤال يُقدمه المرءُ، تأتي الفلسفةُ، لا لتجيبَ عنه ، ولكن لِتُوَلِّدَ منه أسئلةً أُخرى، وإذا أجابتْ، فجوابُها يُصبحُ سؤالاً جديداً.
أمّا حضارتُنا فتختلفُ عنها؛ إذ تتميّزُ بكونِها حضارةً قامتْ على الإسلام، لا على الفلسفة. والإسلامُ عقيدةٌ جاءتْ لتحلَّ مشاكلَ الفرد مقدمةً له معارفَ يقينيةً، خاصةً عندما يتعلقُ الأمرُ بالقضايا الميتافيزيقية، ورسَمتْ هذه العقيدةُ للمرء معالِمَ كبرى ليهتديَ بنورها في طريقه. فليس فِي الإنجاز الأدبي لهذه الحضارة نظرياتٌ بِهذا الجمع. فلو تَصَوَّرْنا أننا نحن الذين أنجزنا مصطلح الخطاب، فإن البحث في دلالته (وفي دلالة غيره من المصطلحات)، لن يتطلّبَ سوى بضعِ صفحاتٍ. وهذا أمر لا يتحقق ونحن نحاول الاقتراب من هذا المصطلح من مصادره الغربية، إنـه مصطلحٌ غامضٌ، "فهو ربّما يعني شكلا من اللغة؛ أي تنويعةً، أوسِجلاًّ ذا خصائصَ شكليةٍ محددةٍ. وربَّما يعني طريقةً في الاتصال، أي نسقا من الأعراف المتواطَأ عليها بين المؤلفين والقُــرَّاء"[1]. ومَرَدُّ هذا الغموض عند المتلقي العربي خاصةً إلى كون المصطلح قد نُظِر إليه من قِبَلِ مجموعات من النظريات. فالمنظر البنيوي مثلا ستختلف رؤيتُــه للموضوع عن رؤية غيره، علما أن البنيوية نفسها لا تقوم على تصور واحد.
إذن فمهمةُ تحديدِ الخطاب لن تكون سهلة؛ لهذا سنعالج الموضوع اعتمادا على المحاور التالية:
( 1 ) - ما الخطاب.
( 2 ) - الخطاب/ النص.
( 3 ) - الخطاب/ التناص.
( 4 ) - الخطاب/ التاريخ.
0 ـ 0 ـ 0 ـ 0
( 1 ) - ما الخطاب؟:
أُفَضِّلُ قبل النظر في ما أنجزه اللسانيون وعلماءُ الأدب في هذا الموضوع النظرَ أولا في معجم quillet؛ لأن الخطاب كان مستعملا في كلام الناس قبل أن يصبح مصطلحا لَوَّنَتْهُ كل نظرية بلونِها؛ بل بألوانِها المختلفة.
يقول المعجم: "الخطاب هو كلُّ وسيلَةٍ يتحقق بواسطتها التعبيرُ عن الأفكار شفويا. وتدل الكلمة حين تُستعمل بصيغة الجمع على أقوالٍ تُلقى في حوارنا أو في تعبيرنا.
الخطاب عرض واسع بليغ/خَـطابي في موضوع سياسي، أو أخلاقي.
الكلمة مرادفة للكلمات التالية:
ـ une oraison
ـ une harangue
ـ une allocution
تعني الكلمة الأولى الرثاء ،أو التأبين، أو الدعاء، وتعني الثانية الخطبة، أما الثالثة فتعني الكلمة أو الخطبة الموجزة".[2]
إن معنى الخطاب في هذا المعجم مرتبط بالإبلاغ. والإبلاغ يَستلزم ملفوظا، كما أن المعنى مرتبطٌ بالحوار، وهذا يستلزم متكلما فمستمعا. ومن خلال الكلمات التي ترادف الخطاب نستنتج أن الخطاب يهدف بالضرورة إلى التأثير في المتلقي. فالتَّأبين مثلا لا يتحقق إلا إذا كانت لغتُه وجدانيةً تَمس وجدان المتلقي؛ لتدفعه إلى الاندماج في الحالة التي يستدعيها الموتُ. ولا نتصوّرُ سياسيا يُــلْقي خطبته، أو كلمته دون أن يكون راغبا في التأثير، والإقناع، بالحق، أو بالباطل.
فهل سيحافظ اللسانيون، وعلماءُ الأدب على هذه الدلالة، أم هل سيضيفون إليها ما ينسجم وتصوراتُهم الفكرية؟
الخطاب عند Émile Benveniste هو"كل تلفظ يفترض متكلما locuteur، ومستمعاauditeur ، وعند المتكلم قَصْدِيةٌ التأثير(= بالحق أوبالكذب) في المخاطب بطريقة ما". [3]
وهو عند Dominique Maingueneau "ليس حقيقة واضحة، وليس موضوعا ملموسا قائما على الحدس، ولكنه نتيجة بناء" [4]. والبناءُ مرتبطٌ بالإحكام فِي مواده، وبالعناية بتجويد عناصره، وتزيينها؛ لأن الشكلَ هو الأساس؛ ولهذا يُهتم فِي الخطاب بصياغته.
فالخطاب إذن، اعتمادا على هذين القولين لغةٌ. وينتِجُ عن هذا أنه بنية لها قانونُها الخاص؛ لهذا يرى البعض أن هذا المصطلح ظهر باعتباره مرادفا للكلام كما حدده F.De Saussure كما اعتبره الآخر مرادفا للملفوظ énoncé، والتلفظ énonciation، والنص texte وسنقتصر على علاقة النص بالخطاب.
( 2 ) ـ الخطاب/ النص:
هل النص هو الخطاب؟
هل الخطاب هو النص؟
- Jean Simonin-Grumbach: "أقترح أن أُسَمِّيَ الخطابَ بالنصوصِ التي تشتملُ على علامةٍ بالنسبة لحالة التلفظ"[5].
- Fowler: "يُنظر إلى النص بوصفه التَّحَقُّقَ الماديَ لخطابٍ يتضمن عددا من الشفرات (المختارة) من ذخيرة مرتبطةٍ بوظيفة الاتصال بين المصدر والمستقبل (ين)"[6] .
- Roland Barthes: "أما النص فتتناوله اللغةُ. فلا وجود له إلا داخل خطاب "[7]
واضح من هذه الأقوال أن النصَّ، والخطابَ، شيء واحد؛ لكن لِــ R.Barthes رأيا غريبا يقول فيه: "عند احتداد التقسيم الاجتماعي (أي قبل قيام المجتمعات الديمقراطية)كانت القراءة والكتابة تتمتعان بنفس الامتياز الطبقي، فكانت البلاغةُ، وهي النبراسُ الأدبي لذلك الوقت، تُلَقِّن الكتابةَ (رغم أن ما كان يُنْتَجُ عادة كان خطاباتٍ لا نصوصا" [8]. وهذا معناه أن النص أعلى درجةً من الخطاب.
إذن كل نص خطاب، وليس كل خطاب نصا.
يقول Todorov: موضوع الشعرية ليس هو مجموعَ الأعمالِ الأدبية القائمة، وإنما موضوعُها هو الخطاب الأدبي، باعتبار أنه مبدأُ توليد نصوص لا نِهاية لها"[9].
فما النص إذن؟
Jean Dubois: "النص هو مجموع الملفوظات اللسانية الخاضعة للتحليل. فالنص إذن عَيِّنَةٌ لسلوك لساني قادر على أن يكون مكتوبا، أو شفويا (...). إن كلَّ مادة لسانية مدروسة تشكل نصا"[10]. لكنBarthes لا يعتقد أن بإمكاننا حاليا تحديدَ كلمة نص،[11] في حين حاول الباحث المغربي عبدُ الفتاح كيليطو أن يجد حلا لهذه الإشكالية بقوله التالي: "أول ما نلاحظ أن كلاما ما لا يصير نصا إلا داخل ثقافة معينة. فعملية تحديد النص ينبغي أن تحترم وجهة نظر المنتمين إلى ثقافة خاصة؛لأن الكلام الذي تعتبره ثقافة ما نصا قد لا يُــعتبر نصا من طرف ثقافة أخرى"[12] . وأعطى الباحثُ مثالا بألف ليلة وليلة؛ التي لا تُـمثل في حضارتنا نصا.
وبِهذا اتخذ النص قيمة معيارية؛ فليس كل الملفوظات نصوصا. وهذا ما يُـفهم من قول ميشيل فوكو Michel Foucault التالي: "إذا كان الكلامُ لا يُـحصى فإن النصوصَ نادرةٌ"[13] ؛لأن النص يتميز بكونه يعرف تعددا في المعنى مع تناغم داخل هذا التعدد[14] ؛ فهو "نسيجٌ من الاقتباسات، والإحالات، والأصداء"[15]، ولهذا كان من العوامل المحددة له غموضُ الدلالة [16]. وبما أنه "يكون عادةً عسيرا، أو غامضا، أو "غنيا"، فإنه لابد من مفسر، أو مؤول يوضح جوانبه المظلمة. لنتدبر فقط التأويلات التي أثارها كتابُ سيبويهِ، ومفتاح العلوم للسكاكي"[17]. فالنص إذن هو كل ملفوظ بحاجة إلى مؤول ومفسر، وللاَّنَصّ لا يُـفَسَّرُ و لا يُـؤول، فألف ليلة وليلة لَمْ تُفسر في حضارتنا الإسلامية؛ لأنَّها حسب وجهة نظر الثقافة الكلاسيكية لم تكن تُعتبر نصا [18].
ويذهب بارث R.Barthes بعيدا عما طرحه عبد الفتاح كيليطو إذ يعتبر النصَّ ما "يوجد على حدود قواعد القول (من معقولية وقابلية للقراءة) لا علاقة لهذه الفكرة بالبلاغة، ولا يُلجأ إليها قصد التفضيل؛ إن النص يحاول أن يضع نفسه بالضبط وراء حدود الرأي السائد (ألا يُعرف الرأيُ السائد الذي يُشكل مجتمعاتِنا الديمقراطيةَ والذي تُسعفه وسائلُ الإعلام بحدوده، ونِهاياته وقدرته على الإقصاء، وحصاره ورقابته؟)، النص دوما بِدْعةٌ، وخروجٌ عن حدود الآراء السائدة" [19]. هذا معناه أن النص لا يتحقق إلا إذا تجاوز السائد، وخرج عنه.
إن النص كما يراه بارث R.Barthes ينبغي أن يكون كالموسيقا المعاصرة التي زَعْزَعَتْ دَوْرَ العازف الذي يَقتصر على التعبير عن اللحن، وأصبحتْ تَطْلب عازفا يُشارك المؤلفَ في المقطوعة، بل ويكملها [20] . كذلك النص؛ لا يتحقق إذا كان يهادن القارئ، بل لا بد أن يكون مؤهلا لاستقبال قارئ فَعَّال، ومساهم في نَمائه؛ ومشاركا المؤلفَ في "خَلْقِهِ". وهذه مقدمة لقتل المؤلف[21]. بينما أعطتْ الثقافةُ الكلاسيكية المؤلفَ دورا هاما. فالمؤلفُ "الحجةُ هو الذي يَمْنَحُ للنص قيمتَه بحيث إنَّ عبارةَ نصٍّ بدون مؤلف عبارةٌ فيها مناقضة في الكلام في الثقافة الكلاسيكية"[22]. وهذا حق ؛ فحين نقرأ ما يأتي:
رَبَابَــةُ رَبَّـــةُ الْبَيْتِ
تَصُبُّ الْخَلَّ فِـي الزَّيْتِ
لَهَـا عَشْـــرُ دَجَتاجَاتٍ
وَدِيـكٌ حَـــسَنُ الصَّـوْتِ
نتصور أننا أمام نص لا يُمكن أن يكون صاحبُه من الفحول، فلا نَهتم به، بل قد لا نرويه. لكن نظرتنا له سوف تتغير حين نعلم أن صاحبه هو بَشَّار بن برد، فندرك بعد ذلك أن هذا النص قد حقق فيه صاحبه عنصر البيان؛ لأن المخاطبَة تراه أحسن من قِفَا نَبْكِ [23]. وهذا ابن الأعرابي تُقرأ عليه أرجوزة أبي تمام على أنها لبعض شعراء هُذيل:
وَعَـاذِلٍ عَذَلْـتُـهُ فِي عذلـــــــــهِ
فَظَنَّ أَنِّـي جَاهِلٌ مِنْ جَهْلِــهِ
فيقول للقارئ: أكتب لي هذه، فيكتبُها له. ثم يقول له هذا القارئ: أَحَسَنَةٌ هي؟ فيرد: ما سمعتُ بأحسنَ منها. لكنه حين علم أنها لأبي تمام قال: خَـرِّقْ خَرِّقْ. [24]
( 3 ) - الخطاب/ التناص :
إذا ما كان النص عسيرا، ويحتاج إلى شارح، أو مفسر؛ فهل الخطاب كذلك؟
لقد فتح ميخائيل باختين بابا جديدةً فِي موضوع الخطاب لَم يلتفت إليه اللسانيون فيما أتصور. فالخطاب تتداخل فيه مجموعةٌ من الأصواتِ، والأقوالِ، والآراءِ أُنتجت خارج الخطاب. هذه الأصداءُ المستعارة قد يَسهل التعرفُ عليها إذا تَمَّ استدعاؤها مباشرة من غير أن يتدخل فاعل الخطاب. لكن الأمر يصير عسيرا حين تُستدعى تلك الأصداءُ استدعاءً غيرَ مباشرٍ يُحافِظ من خلاله الخطابُ الأصيل على استقلاله؛ ولكنه بِمحاوراته يُعْطَى شكلا لصورته ولنبرته الأسلوبيتين [25].
هذا الحوار الذي يَعْقِده خطابٌ مع خطابات أخرى يقتضي أن يكون المخاطَبُ على قَدْرٍ كبير من الذكاء؛ ليستطيع التعرف على ما أُضمر في الخطاب؛ وبِهذا يلتقي الخطاب بالنص.
لكن باختين يكاد يَحصر الحوارية على الخطاب الروائي. فالأجناسُ الشعرية (بالمعنَى الضيق) عنده "لا يُـستخدم الصوغُ الحواري الطبيعي للخطاب (= أي الشعري) بكيفية أدبية، لأن الخطابَ الشعري يكفي ذاتَه بذاته، ولا يَفترض وجودَ ملفوظات الآخرين خارجَ حدوده. إن الأسلوب الشعري هو، اصطلاحا، مجردٌ من كل تأثير متبادلٍ مع خطاب الآخرين، ومن كل "نظرة" نحو خطاب يَصدر عن الآخر.
كذلك يكون غريبا عن الأسلوب الشعري أيُّ نظر مهما كان، في اللغات الأجنبية، وفي إمكاناتِ معجمٍ آخر، وفي دلالة وأشكال تركيبية، ووجهات نظر لسانية أخرى. نتيجةً لذلك، فإن الأسلوب الشعري يجهل الشعورَ بوجود حدودٍ، أو تاريخية، أو تحديدٍ اجتماعي، أوخِصيصة للغته الخاصة؛ وإذن، فإنه يجهل كل علاقة نقدية مقيِّدة، مع لغته الخاصة باعتبارها إحدى اللغات الكثيرة القائمة داخل التعدد اللساني، وبترابط مع هذه العلاقة النقدية (لو وجدت) لا يُسلم نفسه كليةً، ولا يعطي للغةٍ معينة كلَّ معناها.
بطبيعة الحال لا يستطيع أيُّ شاعر وُجد تاريخيا محاطا بتعدد حيٍّ، لساني وصوتي، أَنْ يَجْهَلَ تلك العلاقة النقدية مع لغته إلا أنه لاستطيع أن يَجد لذلك موضعا داخلَ الأسلوب الشعري دون أن يُحَطِّمَهُ ودون أن يُترجِمه إلى نثر، ودون أن يُـحوِّلَ الشاعرَ إلى ناثر" [26].
يثبتُ هذا النصُّ الطويل المقتبس من الخطاب الروائي أن باختين، بدون شك، كان ينطلق من الشعر الذي كان يُنجز بِ "مدينته الفاضلة"؛ لأن الواقع مختلفٌ عن مضمون هذا الحكم. فالأرض اليباب لِT.S.Eliot مثلا تَتَعَدَّد فيها الأصوات، وتتقاطع مجموعةٌ من اللغات؛ يُضافُ إلى هذا استعارتُها عددا من أقوال السابقين بطريقة غيرِ مباشرة مِمّا جعل هذه الأرضَ اليباب نصا بحاجة إلى هوامش تشرح ما غَمُض.
ولكن باختين استدرك قائلا:"هذا لا يعنِي ، بطبيعة الحال أن "لهجات" مختلفةً، ولغةً أجنبية لا يمكن أن تتسرب إلى العمل الشعري. صحيح إن الإمكانات محدودةٌ؛ فليس هناك مجال للتعدد اللساني إلا في الأجناس الشعرية "الدنيا مثل قصائد الهجاء ، والشعر الكوميدي"[27]. وهذا يُذكر بِما أنجزه سارتر حين ربط الالتزامَ بأجناس أدبية معينة واستثنَى الشعر عامةً، لكنه في الحقيقة استثنى نوعا من الشعر ، كما فعل باختين، وهذا النوع هو الشعر الغنائي/ الذاتي.
( 4 ) -الخطاب / التاريخ :
لعل E.Benveniste أولَ من نَظَرَ إلى الخطاب في مقابل التاريخ (السرد)، [28] ثُم جاء بعده D.Maingueneau ليقول: "التلفظ التاريخي/السردي المتعلق باللغة المكتوبة يَسْـرُدُ الأحداثَ الماضيةَ من غير تدخل المتكلم السارد" [29]. هذا معناه أن هذا النوع من التلفظ ليس بخطاب، وهذا يُمثل الدرجة الصفر للتلفظ؛ ذلك بأن في السرد تتم الأمور وكأنْ ليس ثمة ذاتٌ متكلمة، وتبدو الأحداث، وكأنّها تحكي نفسها، بينما يتميز الخطاب، خلافا للسرد/التاريخ بتلفظ يَفترض متكلما ومستمعا، ويتميز بإرادة المتكلم التأثيرَ في مستمعه"[30].
لكن هل فعلا يخلو التاريخ/السرد من رغبةِ السارد في التأثير؟
لنتصفح مثلا كتاب الرَّوْضَتَيْن في أَخْبار الدَّوْلَتَيْن لشهاب الدين أبي محمد عبد الرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم المقدسي الشافعي. فالكتاب سردٌ لسيرة مَلِكَيْنِ عظيمين. الأول هو نور الدين زَنْكِي، والثاني هو صلاح الدين الأيوبي. من حيث الظاهرُ، تبدو سيرةُ كلِّ مَلِكٍ وكأنَّها تَحكي نفسَها. لكن علينا أن نتساءل: لماذا، في هذا العصر الذي يسمي خطأً بعصر الانحطاط احتاج المؤلفُ إلى تأليف هذا الكتاب؟ أو ما الداعي إلى تأليفه؟ لم يتركنا المؤلف فِي هذه الحيرة، إذ قدم لنا ما نريد في مقدمته قائلا:"... مَرَّ بِي (...) ترجمةُ الْمَلِك العادلِ نورِ الدين، فأطربنِي ما رأيتُ من آثاره، وسَمِعتُ من أخباره، مع تأخر زمانه، وتَغَيُّرِ خِلانه، ثُمَّ وقفتُ بعد ذلك (...على سِيرَةِ سيدِ الملوك بعده الملكِ الناصرِ صلاحِ الدين، فوجدتُهما في المتأخرين، كالعُمَرَيْن رضي الله عنهما فِي المتقدمين. فإنَّ كُلَّ ثانٍ من الفريقين حَذَا حَذْوَ مَنْ تَقَدَّمَهُ فِي العَدْل، والجهاد. واجتهد في إعزازِ دين الله أيَّ اجتهادٍ (...) فَعَزَمْتُ على إفراد ذكرِ دولتيهما بتصنيفٍ، يتضمن التقريظَ لَهما، والتعريفَ. فَلَعَلَّهُ يَقِفُ عَليه من الملوك، مَن يَسْلُكُ في ولايته ذلك السلوكَ. فلا يَبْعُــدُ أَنَّهما حُجَّةٌ مِنَ الله على الْمُلُوكِ المتأخرين (...) فإنَّهم قد يَسْتَبْعِدُونَ مِنْ أنفسهم طريقةَ الخلفاء الراشدين، ومن حذا حذْوَهم مِن الأئمة السابقين، ويقولون:نَحن فِي الزَّمَنِ الأخير، وَما لأُولئكَ من نَظير. فكانَ لِمَا قَدَّرَ اللهُ سبحانه من سِيرة هذين الْمَلِكَيْن إلزامُ الحجةِ عليهم بِمَن هو فِي عصرهم من بعض ملوك دهرهم" [31]. ألا يدل هذا النصُّ الطويل أن السردَ/ التاريخَ لا يخلو من رغبة السارد فِي التأثير، وأنَّ التاريخ خطاب.
إن تمييز التاريخ عن الخطاب يُذَكِّرُ بِما قَدَّمَهُ Christian Metz فِي مقاله: تاريخ/خطاب حيث مَيَّزَ الشريطَ التقليدي عن الشريط الثقافي. فالأولُ يُقدم نفسَه باعتباره تاريخا/سردا، وليس باعتباره خطابا. "وقد يتحول إلى خطابٍ حين نَعْرِضُ الأمر على نوايا المخرج، وعلى التأثيرِ الذي يُمارسه في الجمهور"[32].
أما الشريط/الخطاب فإن مشاهدتِي إياه تعنِي أن أُشَارك مخرجَه في خَلقه. ويكون دَوْرِي، عند القراءةِ/ المشاهدةِ كَدَوْر المولِّدة التِي تساهم في أن يَخرج المولودُ إلى الحياة مُعافى.
إن التاريخ باعتباره ملفوظا، يُــذَكِّرُنا، حين يتحول إلى خطاب، بالْحدَث حين ينتقل إلى خَبَرٍ.ذلك بأن للحدث وجودا محايدا، لكن حين يُنْقَلُ إلى الصحف، أو إلى الشاشات، فإن الْمُمَوِّلَ، وصاحبَ الإشهار، ومصدرَ الحدث، ورئيسَ التحرير يتدخلون، فيتحولُ الْحَدَثُ الْمُجَرَّدُ، والْمُحايدُ إلى خطاب [33]. وأرى أن السياق قد يتدخل أحيانا، فيحول الملفوظُ من درجةِ التاريخ إلى درجة الخطاب. وذلك كما يقدمه المثال التالي:
يقول المتنبي:
أَنْتَ طولَ الْحَيَاة لِلُّرومِ غَـــــــــــــــازٍ
فَمَتَى الْوَعْدُ أَنْ يَكُونَ القُفـــولُ
وَسِوَى الرُّومِ خَلْفَ ظَهْرِكَ رُومٌ
فَعَلَى أَيِّ جَانِبَيْـكَ تَمِـــيـــــــــــــــلُ
مَـــا الَّذِي عِنْدَهُ تُدَارُ الْمَــــــــــــــنَايَا
كَالَّذِي عِنْدَهُ تُـدارُ الشَّمــــولُ [34]
الكلام في هذا النص مُوَجَّهٌ إلى سيف الدولة، حيث يخبرنا الشاعر بأن هذا الممدوحَ قد قضى حياته في غزو الروم، لكن الممدوح ابْتُلِيَ بأعداءٍ من أحبائه؛ فأيهم سيقاتل؟
ما قدمه المتنبي في هذا النص هو خَبَرٌ، سَرْدٌ تاريخي، واقعٌ حَدَثَ. وللشاعر المغربي حسن الأمراني قصيدة بعنوان "أوراقٌ مهربة مِن زمن الحصار"[35]، كتبها إبان حصار بيروت 1982، وجعلها في خمسة مقاطعَ، سَمَّى كل مقطع بالورقة. جَعلَ الورقةَ الأولى تحمل أبياتَ المتنبي السابقةَ؛ فأصبح لهذه الأبيات دلالةٌ جديدة داخلَ السياق الشعري والتاريخي[36].
وقد يتحول الخطاب إلى مجرد تاريخ إذا لم ينتج قِيَماً، ويَوُجِّهْ أذواقا، ويَخْلُق حاجاتٍ [37]. ويَظْهر هذا جليا فِي الخطاب الإشهاري، فقد "حاولتْ بعضُ المؤسسات الفرنسية الْمُنْتِجَةِ لِلْجُبْنَةِ fromage أن تَجِدَ لَهَا موقعا فِي السوقِ الأمريكية. وقامت، من أجل ذلك، بِحملةٍ دعائية كُبْرَى لِمنتوجاتِها (...) وباءت الحملةُ بالفشل، وأصاب البضاعةَ كسادٌ كبير. ولم يكن سَبَبُ هذا الفشل تقصيرا فِي الدعاية، ولا عيبا فِي المنتوج، ولا نقصا في مستوى عيش الأمريكيين، بل يعود إلى اختلافِ الصور النمطية التي تؤطر عالم الاستهلاك في البلدين. وهي أمور لا تُدركها العين المجردة، ولا يمكن معاينتها بشكل مباشر. والنمطية الثقافية هي "نَمُوذج للمرجعية الثقافية اللاواعية التي تَختزن شُحنة انفعالية قوية (...)، وهي ما يُـحَدِّدُ الإدراك، وردودَ الأفعال غَيْرَ العقلانية". فماذا حدث إذن؟ من المعروف أن الْـجُبْنَةَ الْمُخَمَّرَةَ عند الفرنسيين كالكامومبير Camembert مثلا لها قيمةٌ، وتُـستهلك وَفق طقوس بعينها، وكلما ازدادت خَميرتُها ازدادت قيمتُها، وزاد استهلاكها. وهناك في السَّنَنِ الثقافي الفرنسي ما يؤكد ذلك "فالجبنة يُــنظر إليها باعتبارها كائنا حيا ولها قيمة عاطفية كبيرة، وهناك الكثير من الوصلات الإشهارية (...) التي تؤكد الروابط الموجودة بين الجبنة واللذة والحب العائلي، والصداقة وحب الوطن". وعلى النقيض من ذلك ما يحدث في أمريكا. فالجبنةُ هناك يجب أن تكون معقمة بالضرورة، وملفوفة في غطاء من البلاستيك لتوضع في الثلاجة، وتُـستهلك بعد ذلك، وهناك ما يثبتُ أن الجبنة يُنظرُ إليها هناك كما يُنظر إلى أي جثة تودع في مستودع الأموات. وكلُّ حملة دعائية ، وكلُّ منتوج لا يحترم هذه المعايير مآلُها الفشل" [38]. إذن فالملفوظ ينتقل من التاريخ إلى الخطاب إذا استثمر فاعلُ التلفظ السَّنَنَ الثقافي للمستمع.
ـ الخلاصة :
نخرج مما تقدم بما يلي:
( 1 ) ـ إن الخطاب كما حدده علماء اللغة،لم يخرج كثيرا عن الدلالة التي قدمها معجم Quillet؛ إذ لابد له من أربعة عناصر، وهي:
ـ الملفوظ.
ـ المتكلم.
ـ المستمع.
ـ نية المتكلم في التأثير في المستمع.
هذا معناه أن الخطاب يحمل بين ثناياه "مَكْر" فاعلِ التلفظ. هذا يدعوني إلى أن أقول بعدم جواز إضافته إلى القرآن الكريم؛ لأن القرآن لا يحمل إلى المتلقي إلا ما هو حق.
( 2 ) ـ لا حظنا في العرض أن النص، والخطاب يتداخلان، وفي الوقت ذاته يتمايزان.
النص في الحضارة الغربية مشتق من النَّسْجِ، أوالنسيج. ينتِج عن هذا أن النص مرتبط بالصنعة، وذلك لتحقيق هدفٍ واحد هو الإقناع بِما يرغب فيه فاعلُ التلفظ. فالنص Texte لا يكذبُ، ولا يقول الحق. بينما النص/النص في حضارتنا، مرتبط بالسمو، وبالحق؛ ولهذا يقول الفقهاء: نَصُّ القرآن، ونَصُّ السُّنَّة. أي: ما دلَّ ظاهرُ لفظهما عليه من الأحكام.
وقد سجلنا أن ثمة فرقا بين النص/ Texte والخطاب. حيث إن الأول عسيرٌ، فهو بحاجة، غالبا، إلى شارح، و مفسر. بينما الثاني يَضَعُ المستمع في اعتباره؛ فلا يتحقق وجوده، أولا تتحقق رسالته إلا إذا لَبَّى رغباتٍ دفينةً في لا وعي المتلقي. و خَيْرُ ما يُمثل هذا الخطابُ ألإشهاري بصفة خاصة. لنستعرض هذا الملفوظ الإشهاري الذي تقدمه القناة المغربية:
C'est bon la vie
C'est bon kiri
هذا خطابٌ ظاهرُه بسيطٌ، إنه قائم على وزن واحد، وروي واحد. إنه يُقِرُّ بأن الحياة جميلة، وهذه قضية لا أحد يشك في صحتها، ونحن نحرص على التشبث بالحياة؛ لهذا بدأ فاعلُ التلفظ بهذا الإقرار تمهيدا للموضوع الذي هو: إن كيري هو الحياة. فإذا كنا نحرص على هذه الحياة، فوجب أن نحرص على ما يجعلنا تستمتع بهذه الحياة، مما يجعلنا نقتنع بوجوب تناول هذه الجبنة. وهذا لا يتحقق لو كان الخطاب علي الصيغة التالية:
C' est bon kiri
C 'est bon la vie
ثم هل مضمون هذا الخطاب الإشهاري كَذِب؟ أم هل هو حقيقة؟ هذا لا يهم؛ لهذا اعتبرنا الخطابَ تلفظا يُخفي بين طياته مكر فاعل التلفظ.
( 3 ) ـ إن الحديث عن الخطاب، أو النصTexte/، يقوم في أدبيات العلماء على الثنائية القائمة على المعيار. ومن خصائص هذه الثنائية في الحضارة الغربية الصراعُ بدل الزوجيةِ التي هي من سِمات الحضارة العربية الإسلامية:
اللغة ـ الكلام
الأثر ـ النص
التاريخ ـ الخطاب الخ
فالعمود الأول يمثل الجمود، والثاني يمثل التحرر، والانطلاق في مجال الإبداع. فهل يتحقق هذا في حضارتنا؟
( 4 ) ـ الريطوريكا كما تناولها أرسطو، وحددها في كتابه، وجهٌ من وجوه الخطاب. كلاهما يقوم على المكر. وكلاهما يقوم على المنطق، وعلى القياس. إذا كانت: (3+6)=9 وَ (5+4)=9 فإن (6+3)=(4+5) وبناءً على هذا نقول: إذا سَلَّمْنا بأن الحياة جميلةٌ، وسَلَّمْنا بأن الجبنة جميلة، فإن الحياة، والجبنة شيء واحد.
[1] ـ نحو نظرية لسانية/ اجتماعية للخطاب الأدبي . روجر فاولد ، ترجمة: محيي الدين محسب . نوافذ ، عدد واحد جمادى الأولى 1418/ شتنبر1997. ص : 19 .
[2] - Dictionnaire Quillet de la langue francaise.Paris.1975.
[3] - Problème de linguistique générale Emile Benveniste. Ed gallimard. Paris 1966 1/242
[4] - ـInitiation aux méthodes de l'analyse du discours. D.Maingueneau.Hachette Université.p:16
[5] - Pour une typologie des discours.Jenny Simonin-Grumbach.dans langue-discours-société.ed du seuil, Paris 1975.87
[6] - نحو نظرية لسانية / اجتماعية . م س . ص : 40
[7] - درس السيميولوجيا . رولان بارط ، ت : ع . بنعبد العالي . دار تبقال للنشر . ص : 60 ـ 61
[8] - ن . م. ص : 65
[9] - autres .Larousse, 1973.p:486 Dictionnaire de linguistique.Jean Dubois et
[10] - ن م
[11] - درس السيميولوجيا . م س . ص : 49
[12] - الأدب والغرابة، دراسات بنيوية في الأدب العربي . عبد الفتاح كيليطو . دار الطليعة ، بيروت . ط :1 . مايو 1982. ص : 13
[13] - L'archéologie du savoir Michel Foucault
[14] - درس السيميولوجيا . م س . ص : 62 ـ 63
[15] - ن م ص :63
[16] - الأدب والغرابة. م س . ص : 16
[17] - ت ن م . ص : 15
[18] - ن م . ص : 15
[19] - درس السيميولوجيا . م س ص : 61
[20] - ن م . ص : 66
[21] - ن م . ص : 64
[22] - الأدب والغرابة. مس . ص : 16
[23] - الأغاني لللأصبهاني ، دار الكتب . 3/163
[24] - أخبار أبي تمام. للصولي .تح: خليل محمدود عساكر ورفيقيه .المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت . ص : 175
[25] - الخطاب الروائي لباختين ، ترجمة محمد برادة . دار الأمان , الرباط
[26] - ن م . ص : 50 .( هذا يذكر بما قاله سارتر عن الشعر عند حديثه عن اللالتزام )
[27] - ن م . ص : 51
[28] - انظر كتاب Initiation aux méthodes du discours de D.Maingueneau
[29] - Initiation aux méthodes de l'analyse du discours p.p.104. 105.
[30] - ن م . ص : 105 .
[31] - كتاب الروضتين في أخبار الدولتين للمقديسي. دار الجبل و بيروت . 1/3ـ 4
[32] - Langue,discours,société.p:"301
[33] - حَدَثٌ كسيارة مفخخة تُفجر فيموت سائقُها ، يُنقل هذا على أنه عملية إرهابية، كما يُنقل عبر قناة مخالفة على أنها عملية استشهادية .
[34] - شرح ديوان المتنبي، وضعه البرقوقي. دار الكتاب اللبناني، بيروت. 3/277ـ278
[35] - راجعها في ديوان الزمان الجديد للشاعر حسن الأمراني، وفي كتابي "قراءة في أوراق الأمراني"
[36] - انظر دراستنا هذه القصيدة، مجلة المشكاة العدد: 15 ـ 16، صدرت في كتاب قراءة في أوراق الأمراني.
[37] - الخطاب الإشهاري. د سعيد بنكراد. جريدة الاتحاد الأسبوعي. ع: 46ـ 21/27 فبراير 2003. ص: 12
[38] - ن . ص : 10
قسم : تجديد الخطاب - 12:22 16-1-2014 - المصدر : محمد علي الرباوي |